الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 113 ] ثم دخلت سنة مائتين من الهجرة النبوية

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      في أول يوم من هذه السنة جلس حسين بن حسن الأفطس على طنفسة مثلثة خلف المقام ، وأمر بتجريد الكعبة مما عليها من كساوي بني العباس ، وقال : نطهرها من كساويهم . وكساها ملاءتين صفراوين عليهما اسم أبي السرايا ، ثم أخذ ما في كنز الكعبة من الأموال ، وتتبع ودائع بني العباس فأخذها ، حتى إنه ليأخذ مال ذي المال ، ويلزمه بإقرار للمسودة فيأخذه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهرب منه الناس إلى الجبال وحك ما على رءوس الأساطين من الذهب ، فكان ينزل من السارية مقدار يسير بعد جهد جهيد ، وقلعوا ما في المسجد الحرام من الشبابيك ، وباعوها بالأثمان البخسة ، وأساءوا السيرة جدا . فلما بلغه مقتل أبي السرايا كتم ذلك ، وأمر رجلا من الطالبيين شيخا كبيرا ، واستمر على سوء السيرة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي سادس عشر المحرم منها ، قهر هرثمة بن أعين أبا السرايا وهزم جيشه ، [ ص: 114 ] وأخرجه ومن معه من الطالبيين من الكوفة ودخلها هرثمة ، ومنصور بن المهدي فأمنوا أهلها ، ولم يتعرضوا لأحد ، وسار أبو السرايا بمن معه إلى القادسية ثم سار منها فاعترضهم بعض جيوش المأمون فهزموهم أيضا ، وجرح أبو السرايا جراحة منكرة جدا ، وهربوا يريدون الجزيرة إلى منزل أبي السرايا برأس العين ، فاعترضهم بعض الجيوش أيضا فأسروهم ، وأتوا بهم الحسن بن سهل وهو بالنهروان حين طردته الحربية ، فأمر بضرب عنق أبي السرايا ، فجزع من ذلك جزعا شديدا جدا ، وطيف برأسه ، وأمر بجسده أن يقطع باثنين ، فينصب على جسر بغداد فكان بين خروجه وقتله عشرة أشهر ، فبعث الحسن بن سهل محمد بن محمد إلى المأمون مع رأس أبي السرايا . وقد قال بعض الشعراء :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر ضربة الحسن بن سهل بسيفك يا أمير المؤمنينا     أدارت مرو رأس أبي السرايا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأبقت عبرة للعابرينا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان الذي في يده البصرة من الطالبيين زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ، ويقال له : زيد النار . لكثرة ما حرق من البيوت التي للمسودة ، فأسره علي بن أبي سعيد ، وأمنه ، وبعث به وبمن معه من القواد إلى اليمن ، لقتال من هناك من الطالبيين الذين قد خرجوا بها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 115 ] وفيها خرج باليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ، ويقال له : الجزار . لكثرة من قتل من أهل اليمن ، وأخذ من أموالهم . وقد كان مقيما بمكة ، فلما بلغه خبر أبي السرايا ، وظهوره بأرض الكوفة طمع فسافر إلى أهل اليمن ، فلما بلغ نائبها قدومه ترك له اليمن وسار إلى خراسان إلى أمير المؤمنين ، واجتاز بمكة ، وأخذ أمه منها ، واستحوذ إبراهيم بن موسى على بلاد اليمن ، وجرت حروب كثيرة وخطوب كبيرة يطول ذكرها ، ورجع محمد بن جعفر العلوي الذي ادعى الخلافة بمكة عما كان يزعمه ، وقال : كنت أظن أن المأمون قد مات كما سمع ذلك ، وقد تحققت حياته ، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه مما كنت ادعيت من ذلك ، وقد رجعت إلى بيعته ، وإنما أنا رجل من عرض المسلمين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهزم أبو السرايا وأصحابه ، ومحمد بن محمد الذي تأمر بالكوفة وادعى الخلافة ، وتفرق أصحابهما على يد هرثمة بن أعين فوشى بعض الناس إلى المأمون أن هرثمة لو شاء ما ظهر أبو السرايا وأصحابه ، فاستدعى به إلى مرو فأمر به فضرب بين يديه ، ووطئ بطنه ، ثم رفع إلى الحبس ، ثم قتل بعد ذلك بأيام ، وانطوى خبره بالكلية ، ولما وصل خبر قتله إلى بغداد سعت العامة والحربية بالحسن بن سهل نائب العراق وغيرها ، وقالوا : لا نرضى به ، ولا بعماله ببلادنا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأقاموا إسحاق بن موسى بن المهدي نائبا ، فاجتمع أهل الجانبين على ذلك ، [ ص: 116 ] والتفت على الحسن بن سهل جماعة من القواد والأجناد ، وراسل من وافق العامة على ذلك من القواد يحرضهم على القتال ، ووقعت الحرب بينهم ثلاثة أيام في شعبان من هذه السنة ، ثم اتفق الحال على أن يعطيهم شيئا من أرزاقهم ينفقونها في شهر رمضان ، فما زال يمطلهم إلى ذي القعدة حتى يدرك الزرع ، فخرج في ذي القعدة زيد بن موسى بن جعفر الذي يقال له : زيد النار ، وقد كان خروجه هذه المرة بناحية الأنبار فبعث إليه علي بن هشام نائب بغداد عن الحسن بن سهل والحسن بالمدائن إذ ذاك فأخذ وأتي به إلى علي بن هشام ، وأطفأ الله نائرته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وبعث المأمون في هذه السنة يطلب جماعة من العباسيين ، وأحصى كم العباسيون ؟ فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفا ، ما بين ذكر وأنثى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها قتلت الروم ملكهم إليون ، وقد ملكهم سبع سنين ، وملكوا عليهم ميخائيل نائبه . وفيها قتل المأمون يحيى بن عامر بن إسماعيل ؛ وذلك لأنه قال للمأمون : يا أمير الكافرين فقتل صبرا بين يديه . وفيها حج بالناس أبو إسحاق محمد المعتصم بن هارون الرشيد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية