الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
فصل

وأقرب ما يكون عليه إتيان الله في صورة بعد صورة -وإن كان تأويلا باطلا أيضا- ما ذكره بعض أهل الحديث مثل أبي عاصم النبيل، وعثمان بن سعيد الدارمي، فإنه يروى عن أبي عاصم النبيل أنه كان يقول: «ذلك تغير يقع في عيون الرائين، كنحو ما يخيل إلى الإنسان الشيء بخلاف ما هو به فيتوهم الشيء على الحقيقة».

وقال عثمان بن سعيد في نقضه على المريسي: [ ص: 135 ] «وأما إنكارك أيها المريسي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يتراءى لعباده المؤمنين يوم القيامة في غير صورته، فيقولون: نعوذ بالله منك، ثم يتراءى في صورته التي يعرفونها فيعرفونه فيتبعونه» فزعمت أيها المريسي أن من أقر بهذا فهو مشرك، يقال لهم: أليس قد عرفتم ربكم في الدنيا، فكيف جهلتموه عند العيان، وشككتم فيه؟

قال عثمان بن سعيد: فيقال لك أيها المريسي: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية الزهري، حدثنا نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما عن [ ص: 136 ] النبي صلى الله عليه وسلم، كأنك تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله من جودة إسناده، فاحذر ألا يكون قذفك بالشرك أن يقع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما ذنبنا إن كان الله سلب عقلك حتى جهلت معناه؟! ويحك إن هذا ليس بشك ولا ارتياب منهم ولو أن الله تجلى لهم أول مرة في صورته التي عرفهم صفاتها في الدنيا لاعترفوا بما عرفوا، ولم ينفروا، ولكنه يري نفسه في أعينهم لقدرته ولطف ربوبيته في صورة غير ما عرفهم الله صفاتها في الدنيا؛ ليمتحن بذلك إيمانهم ثانية في الآخرة كما امتحن في الدنيا؛ ليثبتهم أنهم لا يعترفون بالعبودية في الدنيا والآخرة إلا للمعبود الذي عرفوه في الدنيا بصفاته التي أخبرهم بها في كتابه، واستشعرتها قلوبهم حتى ماتوا على ذلك، فإذا مثل في أعينهم غير ما عرفوا من الصفة نفروا وأنكروا؛ إيمانا منهم بصفة ربوبيته التي امتحن قلوبهم في الدنيا، فلما رأى أنهم لا يعرفون إلا التي امتحن الله قلوبهم تجلى لهم في الصورة التي عرفهم في [ ص: 137 ] الدنيا فآمنوا به وصدقوا وماتوا ونشروا عليه من غير أن يتحول الله من صورة إلى صورة، ولكن يمثل ذلك في أعينهم بقدرته، ليس هذا أيها المريسي بشك منهم في معبودهم، بل هو زيادة يقين وإيمان به مرتين، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «أنه قال لهم يوم القيامة: أتعرفون ربكم؟ فيقولون: نعم، إنه إذا تعرف إلينا عرفناه» يقولون: لا نقر بالربوبية إلا لمن استشعرته قلوبنا بصفاته التي أنبأنا بها في الدنيا، فحينئذ يتجلى لهم في صورته المعروفة عندهم، فيزدادون به عند رؤيته إيمانا ويقينا، وبربوبيته اغتباطا وطمأنينة.

وليس هذا من باب الشك على ما ذهبت إليه، بل هو يقين بعد يقين، وإيمان بعد إيمان، ولكن الشك والريبة كلها ما ادعيت أيها المريسي في تفسير الرؤية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ترون ربكم يوم القيامة لا تضامون في رؤيته» فادعيت [ ص: 138 ] أن رؤيتهم تلك أنهم يعلمون يومئذ أن لهم ربا، لا يعتريهم في ذلك شك، كأنهم في دعواك أيها المريسي لم يعلموا في الدنيا أنه ربهم حتى يستيقنوا به في الآخرة.

فهذا التفسير إلى الشك أقرب مما ادعيت في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشك والشرك، لا بل هو الكفر؛ لأن الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم يعلمون يومئذ أن الله ربهم، ألا ترى أنه يقول: أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [السجدة: 12] فالشك في الله هذا الذي تأولته أنت في الرؤية لا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويلك! إن الله لا تتغير صورته ولا تتبدل ولكن يمثل في أعينهم يومئذ، أولم تقرأ كتاب الله وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا [الأنفال: 44] وهو الفعال لما يشاء كما مثل جبريل عليه السلام مع عظم صورته وجلالة خلقه في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، وكما مثله لمريم بشرا [ ص: 139 ] سويا، وهو ملك كريم في صورة الملائكة، وكما شبه في أعين اليهود أن قالوا: إنا قتلنا المسيح [النساء: 157] فقال وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم [النساء: 157].

وما عملك أيها المريسي بهذا وما أشبهه؟! غير أنه وردت عليك آثار لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بحلقك، ونقضت عليك مذهبك، فالتمست الراحة منها بهذه المغاليط والأضاليل التي لا يعرفها أحد من أهل العلم والبصر بالعربية، وأنت منها في شغل، كلما غالطت بشيء أخذ بحلقك شيء آخر يخنقك حتى تلتمس له أغلوطة أخرى.

ولئن جزعت من هذه الآثار فدفعتها بالمغاليط ما لك راحة فيما يصدقها من كتاب الله عز وجل الذي لا تقدر على دفعه، وكيف تقدر على دفع هذه الآثار وقد صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألفاظها بلسان عربي مبين ناقضة لمذهبك وتفاسيرك، وقد تداولتها أيدي [ ص: 140 ] المؤمنين وتناسخوها، يؤديها الأول إلى الآخر، والشاهد إلى الغائب، إلى أن تقوم الساعة، ليقرعوا بها رؤوس الجهمية، ويهشموا بها أنوفهم، وينبذ تأويلك في حش أبيك، ويكسر في حلقك كما كسر في حلوق من كان فوقك من الولاة والقضاة الذين كانوا من فوقك، مثل ابن أبي دؤاد، وعبد الرحمن، وشعيب [ ص: 141 ] بعده، وغسان، وابن أبي رباح المفتري على القرآن.

التالي السابق


الخدمات العلمية