الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  29 (باب كفران العشير وكفر بعد كفر)

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  الكلام فيه على وجهين: الأول: وجه المناسبة بين هذا الباب وبين الأبواب التي قبله هو أن المذكور في الأبواب الماضية هو أمور الإيمان والكفر ضده، والمناسبة بينهما من جهة التضاد لأن الجامع بين الشيئين على أنواع عقلي بأن يكون بينهما اتحاد في التصور أو تماثل أو تضايف كما بين الأقل والأكثر والعلو والسفل، ووهمي بأن يكون بين تصور الشيئين شبه تماثل كلوني بياض وصفرة، أو تضاد كالسواد والبياض والإيمان والكفر، وشبه تضاد كالسماء والأرض وخيالي بأن يكون بينهما تقارن في الخيال وأسبابه مختلفة كما عرف في موضعه، ولم أر شارحا ذكر وجه المناسبة ههنا كما ينبغي، وقال بعض الشارحين: أردف البخاري هذا الباب بالذي قبله لينبه على أن المعاصي تنقص الإيمان ولا تخرج إلى الكفر الموجب للخلود في النار لأنهم ظنوا أنه الكفر بالله، فأجابهم أنه عليه السلام أراد كفرهن حق أزواجهن وذلك لا محالة نقص من إيمانهن لأنه يزيد بشكرهن العشير وبأفعال البر، فظهر بهذا أن الأعمال من الإيمان وأنه قول وعمل، وقال النووي في الحديث أراد به حديث الباب أنواع من العلم منها ما ترجم له وهو أن الكفر قد يطلق على غير الكفر بالله تعالى، وقال القاضي أبو بكر بن العربي في شرحه مراد المصنف أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيمانا كذلك المعاصي تسمى كفرا لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد به الكفر المخرج عن الملة، وهذا كما ترى ليس في كلام واحد منهم ما يليق بوجه [ ص: 200 ] المناسبة، والوجه ما ذكرناه ولكن كان ينبغي أن يذكر هذا الباب والذي بعده من الأبواب الأربعة عقيب باب قول النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (الدين النصيحة لله...) إلخ بعد الفراغ من ذكر الأبواب التي فيها أمور الإيمان رعاية للمناسبة الكاملة.

                                                                                                                                                                                  (الوجه الثاني في الإعراب والمعنى) فقوله " باب " مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف مضاف إلى ما بعده، والتقدير هذا باب في بيان كفران العشير وبيان كفر دون كفر، وقوله "وكفر" عطف على كفران، وقوله " دون كفر " كلام إضافي صفته و " دون " نصب على الظرف و "الكفران " مصدر كالكفر، والفرق بينهما أن الكفر في الدين والكفران في النعمة، وفي (العباب) الكفر نقيض الإيمان، وقد كفر بالله كفرا، والكفر أيضا جحود النعمة وهو ضد الشكر، وقد كفرها كفورا وكفرانا وأصل الكفر التغطية، وقد كفرت الشيء أكفره بالكسر كفرا بالفتح أي سترته، وكل شيء غطى شيئا فقد كفره، ومنه الكافر لأنه يستر توحيد الله أو نعمة الله، ويقال للزارع الكافر لأنه يغطي البذر تحت التراب، ورماد مكفور إذا سفت الريح التراب عليه حتى غطته، والعشير فعيل بمعنى معاشر كالأكيل بمعنى المؤاكل من المعاشرة وهي المخالطة وقيل الملازمة، قالوا: المراد ههنا الزوج يطلق على الذكر والأنثى لأن كل واحد منهما يعاشر صاحبه، وحمله البعض على العموم والعشير أيضا الخليط والصاحب، وفي (العباب) العشير المعاشر; قال الله تعالى: لبئس المولى ولبئس العشير والعشير الزوج.

                                                                                                                                                                                  ثم روى الحديث المذكور والعشير العشر كما يقال للنصف نصيف وللثلث ثليث وللسدس سديس، والعشير في حساب مساحة الأرض عشر القفيز، والقفيز عشر الجريب، والعشيرة القبيلة والمعشر الجماعة.

                                                                                                                                                                                  قوله " وكفر دون كفر " أشار به إلى تفاوت الكفر في معناه أي وكفر أقرب من كفر كما يقال هذا دون ذلك أي أقرب منه، والكفر المطلق هو الكفر بالله وما دون ذلك يقرب منه، وتحقيق ذلك ما قاله الأزهري الكفر بالله أنواع: إنكار وجحود، وعناد ونفاق; وهذه الأربعة من لقى الله تعالى بواحد منها لم يغفر له; فالأول أن يكفر بقلبه ولسانه ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد كما قال الله تعالى: إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم الآية، أي الذين كفروا بالتوحيد وأنكروا معرفته. والثاني أن يعرف بقلبه ولا يقر بلسانه وهذا ككفر إبليس وبلعام وأمية بن أبي الصلت. والثالث: أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه ويأبى أن يقبل الإيمان بالتوحيد ككفر أبي طالب. والرابع: أن يقر بلسانه ويكفر بقلبه ككفر المنافقين.

                                                                                                                                                                                  قال الأزهري: ويكون الكفر بمعنى البراءة كقوله تعالى حكاية عن الشيطان: إني كفرت بما أشركتمون من قبل أي تبرأت، قال: وأما الكفر الذي هو دون ما ذكرنا، فالرجل يقر بالوحدانية والنبوة بلسانه ويعتقد ذلك بقلبه لكنه يرتكب الكبائر من القتل والسعي في الأرض بالفساد ومنازعة الأمر أهله وشق عصا المسلمين ونحو ذلك، انتهى، وقد أطلق الشارع الكفر على ما سوى الأربعة وهو كفران الحقوق والنعم كهذا الحديث ونحوه، وهذا مراده من قوله " وكفر دون كفر "، وفي بعض الأصول: (وكفر بعد كفر) وهو بمعنى الأول.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية