الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 296 ] ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      في رمضان منها خلع الخليفة الواثق على أشناس الأمير وتوجه وألبسه وشاحين من جوهر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود الأمير . وغلا السعر على الناس في طريق مكة جدا ، وأصابهم حر شديد ، وهم بعرفة ثم برد شديد ، ومطر عظيم في ساعة واحدة ، ونزل عليهم وهم بمنى مطر لم ير مثله ، وسقطت قطعة من الجبل عند جمرة العقبة فقتلت جماعة من الحجاج .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير وفيها مات أبو الحسن المدائني في منزل إسحاق بن إبراهيم الموصلي ، وحبيب بن أوس الطائي أبو تمام الشاعر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : أما أبو الحسن علي بن محمد المدائني أحد أئمة هذا الشأن ، وإمام الأخباريين في زمانه ، فتقدم ذكر وفاته قبل هذه السنة ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أما أبو تمام الطائي الشاعر : صاحب الحماسة التي جمعها في [ ص: 297 ] فصل الشتاء بهمذان في دار وزيرها ، فهو حبيب بن أوس بن الحارث بن قيس بن الأشج بن يحيى بن مرينا بن سهم بن خلجان بن مروان بن دفافة بن مر بن سعد بن كاهل بن عمرو بن عدي بن عمرو بن الحارث بن طيئ ، وهو جلهمة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان أبو تمام الطائي الشاعر الأديب المشهور .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ونقل الخطيب ، عن محمد بن يحيى الصولي أنه حكى عن بعض الناس أنهم قالوا : أبو تمام حبيب بن تدرس النصراني ، فسماه أبو تمام أوسا بدل تدرس . قال ابن خلكان وأصله من قرية جاسم من عمل الجيدور بالقرب [ ص: 298 ] من طبرية وكان بدمشق يعمل عند حائك ثم سار إلى مصر في شبيبته ، وابن خلكان أخذ ذلك من " " تاريخ الحافظ ابن عساكر " " ، وقد ترجم أبا تمام ترجمة حسنة . وقال الخطيب ، البغدادي وهو شامي الأصل ، وكان بمصر في حداثته يسقي الماء في المسجد الجامع ثم جالس الأدباء فأخذ عنهم وتعلم منهم ، وكان فطنا فهما ، وكان يحب الشعر ، فلم يزل يعانيه حتى قال الشعر فأجاد ، وشاع ذكره ، وسار شعره وبلغ المعتصم خبره فحمله إليه وهو بسر من رأى فعمل فيه قصائد ، فأجازه المعتصم وقدمه على شعراء وقته ، فقدم بغداد فجالس الأدباء ، وعاشر العلماء ، وكان موصوفا بالظرف وحسن الأخلاق وكرم النفس ، وقد روى عنه أحمد بن أبي طاهر وغيره أخبارا مسندة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال القاضي ابن خلكان : كان يحفظ أربع عشرة ألف أرجوزة للعرب غير القصائد والمقاطيع ، وغير ذلك . وكان يقال : في طيئ ثلاثة : حاتم في كرمه ، وداود الطائي في زهده ، وأبو تمام في شعره ، قلت : وقد كان الشعراء في زمانه جماعة ؛ فمن مشاهيرهم أبو الشيص ودعبل بن علي ، وابن أبي قيس ، وقد كان أبو تمام من خيارهم دينا وأدبا وأخلاقا . ومن رقيق شعره قوله :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 299 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا حليف الندى ويا توءم الجو د ويا خير من حبوت القريضا     ليت حماك بي وكان لك الأج
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ر فلا تشتكي وكنت المريضا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر الخطيب عن إبراهيم بن محمد بن عرفة أن أبا تمام توفي في سنة ثمان وعشرين ومائتين ، وكذا قال ابن جرير وحكي عن بعضهم أنه توفي في سنة إحدى وثلاثين ، وقيل : سنة ثنتين وثلاثين . فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكانت وفاته بالموصل ، وبنيت على قبره قبة ، وحكى الصولي عن الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات أنه قال يرثيه :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      نبأ أتى من أعظم الأنباء     لما ألم مقلقل الأحشاء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قالوا حبيب قد ثوى فأجبتهم     ناشدتكم لا تجعلوه الطائي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال غيره :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فجع القريض بخاتم الشعراء     وغدير روضتها حبيب الطائي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ماتا معا فتجاورا في حفرة     وكذاك كانا قبل في الأحياء

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 300 ] وقد جمع الصولي شعر أبي تمام على حروف المعجم . قال القاضي ابن خلكان وقد امتدح أحمد بن المعتصم - ويقال : ابن المأمون - بقصيدته التي يقول فيها :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إقدام عمرو في سماحة حاتم     في حلم أحنف في ذكاء إياس

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال له بعض الحاضرين : أتقول هذا لأمير المؤمنين ، وهو أكبر قدرا من هؤلاء . فأطرق ساعة ، ثم قال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لا تنكروا ضربي له من دونه     مثلا شرودا في الندى والباس
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فالله قد ضرب الأقل لنوره     مثلا من المشكاة والنبراس

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما أخذوا منه القصيدة لم يجدوا فيها هذين البيتين ، وإنما قالهما ارتجالا . قال بعضهم : لا يعيش هذا بعد هذا إلا قليلا . فكان كذلك . قال القاضي : وقد زعم بعضهم أن هذه القصيدة امتدح بها بعض الخلفاء ، فأقطعه الموصل فأقام بها أربعين يوما ، وليس هذا بصحيح ، ولا أصل له ، وإن كان قد لهج به بعض الناس كالزمخشري وغيره ، وقد أورد له الحافظ ابن عساكر أشياء مستطرفة من شعره الرائق ونظمه الفائق ؛ فمن ذلك قوله :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 301 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا     هلكن إذا من جهلهن البهائم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولم يجتمع شرق وغرب لقاصد     ولا المجد في كف امرئ والدراهم

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومنه قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وما أنا بالغيران من دون عرسه     إذا أنا لم أصبح غيورا على العلم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      طبيب فؤادي مذ ثلاثين حجة     ومذهب همي والمفرج للغم



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية