الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 475 ] كتاب المداينات والتفليس 1276 - مسألة :

                                                                                                                                                                                          ومن ثبت للناس عليه حقوق من مال أو مما يوجب غرم مال ببينة عدل ، أو بإقرار منه صحيح : بيع عليه كل ما يوجد له ، وأنصف الغرماء ، ولا يحل أن يسجن أصلا ، إلا أن يوجد له من نوع ما عليه فينصف الناس منه بغير بيع ، كمن عليه دراهم ووجدت له دراهم ، أو عليه طعام ووجد له طعام ، وهكذا في كل شيء لقول الله تعالى : { كونوا قوامين بالقسط } .

                                                                                                                                                                                          { ولتصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم قول سلمان : أعط كل ذي حق حقه } ; ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { مطل الغني ظلم } .

                                                                                                                                                                                          فسجنه مع القدرة على إنصاف غرمائه ظلم له ولهم معا ، وحكم بما لم يوجبه الله تعالى قط ، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سجن قط - : روينا من طريق أبي عبيد القاسم بن سلام نا أحمد بن خالد الوهبي عن محمد بن إسحاق عن محمد بن علي بن الحسين قال : قال علي بن أبي طالب : حبس الرجل في السجن بعد ما يعرف ما عليه من الدين ظلم .

                                                                                                                                                                                          وقال الحنفيون : لا يباع شيء من ماله ، لكن يسجن - وإن كان ماله حاضرا - حتى يكون هو الذي ينصف من نفسه .

                                                                                                                                                                                          ثم تناقضوا فقالوا : إلا إن كان الدين دراهم فتوجد له دنانير ، أو يكون الدين دنانير فتوجد له دراهم ، فإن الذي يوجد من ذلك يباع فيما عليه منها . [ ص: 476 ] فليت شعري ما الفرق بين بيع الدنانير وابتياع دراهم ، وبين بيع العروض وابتياع ما عليه ؟ وإنما أوجب الله تعالى علينا ، وعلى كل أحد إنصاف ذي الحق من أنفسنا ، ومن غيرنا .

                                                                                                                                                                                          ومنع تعالى من السجن بقوله تعالى : { فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه } وافترض حضور الجمعة والجماعات .

                                                                                                                                                                                          فمنعوا المدين من حضور الصلوات في الجماعة ، ومن حضور الجمعة ، ومن المشي في مناكب الأرض ومنعوا صاحب الحق من تعجيل إنصافه - وهم قادرون على ذلك - فظلموا الفريقين .

                                                                                                                                                                                          واحتجوا بآثار واهية - : منها : رواية من طريق أبي بكر بن عياش عن أنس : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي مجلز : { أن غلامين من جهينة كان بينهما غلام فأعتقه أحدهما فحبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى باع غنيمته } وعن الحسن : { أن قوما اقتتلوا فقتل بينهم قتيل فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسهم } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : كل هذا باطل ، أما حديث أنس ففيه أبو بكر بن عياش وهو ضعيف وانفرد عنه أيضا إبراهيم بن زكريا الواسطي ولا يدرى من هو ، وحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ضعيف .

                                                                                                                                                                                          ومن هذه الطريق بعينها فيمن منع الزكاة : { إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا } فإن احتجوا به في الحبس في التهمة فليأخذوا بروايته هذه وإلا فالقوم متلاعبون بالدين . [ ص: 477 ] فإن قالوا : هذا منسوخ ؟ قيل لهم : أترون خصمكم يعجز عن أن يقول لكم : والحبس في التهمة منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم : { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } ؟ والحبس في غير التهمة منسوخ بوجوب حضور الجمعة ، والجماعات وحديث الحبس حتى باع غنيمته مرسل ولا حجة في مرسل .

                                                                                                                                                                                          ولو صح لما كان لهم فيه حجة ; لأنه قد يخاف عليه الهرب بغنيمته فحبس ليبيعها ، وهذا حق لا ننكره وليس فيه الحبس الذي يرون هم ، ولا أنه امتنع من بيعها . وقد يكون الضمير الذي في باعها راجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          وقد يكون هذا الحبس إمساكا في المدينة .

                                                                                                                                                                                          وليس فيه أصلا أنه حبس في سجن - فلا حجة لهم فيه أصلا ، وحديث الحسن مرسل .

                                                                                                                                                                                          وأيضا : فإنما هو حبس في قتيل ، وحاشا لله أن يكون عليه السلام يحبس من لم يصح عليه قتل بسجن فيسجن البريء مع النطف ، هذا فعل أهل الظلم والعدوان ، لا فعله عليه السلام ، والله لقد قتل عبد الله بن سهل رضوان الله عليه وهو من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم فيما بين أظهر شر الأمة وهم اليهود لعنهم الله فما استجاز عليه السلام سجنهم ، فكيف أن يسجن في تهمة قوما من المسلمين ؟ فهذا الباطل الذي لا شك فيه .

                                                                                                                                                                                          ثم ليت شعري إلى متى يكون هذا الحبس في التهمة بالدم وغيره ؟ فإن حدوا حدا زادوا في التحكم بالباطل .

                                                                                                                                                                                          وإن قالوا : إلى الأبد ، تركوا قولهم ، فهم أبدا يتكسعون في ظلمة الخطأ .

                                                                                                                                                                                          واحتجوا أيضا بقول الله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا } هذه أحكام منسوخة .

                                                                                                                                                                                          فمن أضل ممن يستشهد بآية قد نسخت ، وبطل حكمها فيما لم ينزل فيه أيضا ، وفيما ليس فيها منه لا نص ولا دليل ولا أثر . [ ص: 478 ] والحق في هذا هو قولنا - : كما روينا من طريق مسلم بن الحجاج نا قتيبة بن سعيد نا الليث هو ابن سعد - عن بكير بن الأشج عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري قال : { أصيب رجل في ثمار ابتاعها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكثر دينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقوا عليه ؟ فتصدق الناس عليه ، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك } .

                                                                                                                                                                                          فهذا نص جلي على أن ليس لهم شيء غير ما وجدوا له ، وأنه ليس لهم حبسه ، وأن ما وجد من ماله للغرماء ، وهذا هو الحق الذي لا يحل سواه ; فإن قيل : روي أنه عليه السلام باع لهم مال معاذ ؟ قلنا : هكذا نقول - وإن لم يصح من طريق السند ; لأنه مرسل ، لكن الحكم أنه إنما يقضي لهم بعين ماله ، ثم يباع لهم ويقسم عليهم الحصص ; لأنه لا سبيل إلى إنصافهم بغير هذا .

                                                                                                                                                                                          فإن موهوا بما روي عن عمر ، وعلي ، وشريح ، والشعبي ، فإن الرواية عن عمر إنما هي من طريق سعيد بن المسيب أن عمر حبس عصبة منفوس ينفقون عليه الرجال دون النساء - وأن نافع بن عبد الحارث اشترى دارا للسجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف فإن لم يرض عمر فلصفوان أربعمائة .

                                                                                                                                                                                          وهذان خبران لا حجة لهم فيها ; لأن حبس عمر للعصبة للنفقة على الصبي إنما هو إمساك وحكم وقصر ، لا سجن ; لأن من الباطل أن يسجنهم أبدا ولم يذكر عنهم امتناع .

                                                                                                                                                                                          ثم هم لا يقولون بإيجاب النفقة على العصبة ، فقد خالفوا عمر ، فكيف يحتجون به في شيء هم أول مخالف له ؟ وأما الخبر الثاني : فكلهم لا يراه بيعا صحيحا ، بل فاسدا مفسوخا ، فكيف يستجيز مسلم أن يحتج بحكم يراه باطلا ؟ والمحفوظ عن عمر مثل قولنا على ما نذكر [ ص: 479 ] بعد هذا إن شاء الله تعالى ، والرواية عن علي أنه حبس في دين : هي من طريق جابر الجعفي وهو كذاب .

                                                                                                                                                                                          وقد روينا عن علي خلاف هذا كما ذكرنا ونذكر .

                                                                                                                                                                                          وأما شريح ، والشعبي ، فما علمنا حكمهما حجة ، وأقرب ذلك أنهما قد ثبت عنهما أن الأجير ، والمستأجر - كل واحد منهما يفسخ الإجارة إذا شاء ، وإن كره الآخر ، وهم كلهم مخالف لهذا الحكم ، فالشعبي ، وشريح حجة إذا اشتهوا ، وليسا حجة إذا اشتهوا ، أف لهذه العقول ، والأديان ، وقد ذكرنا قبل عن علي إنكار السجن .

                                                                                                                                                                                          وقد روينا عن عمر ما روينا من طريق مالك عن عمر بن عبد الرحمن بن دلاف عن أبيه أن رجلا من جهينة كان يشتري الرواحل إلى أجل فيغالي بها فأفلس ، فرفع إلى عمر بن الخطاب ؟ قال : أما بعد أيها الناس ، فإن الأسفع أسفع بني جهينة رضي من دينه وأمانته بأن يقال : سبق الحاج ، وأنه ادان معرضا ، فأصبح قد دين به ، فمن كان له عليه شيء فليفد بالغداة ؟ فإنا قاسمون ماله بالحصص - ورويناه أيضا من طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن نافع مولى ابن عمر .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي عبيد نا ابن أبي زائدة عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن عبد الملك بن عمير قال : كان علي بن أبي طالب إذا أتاه رجل برجل له عليه دين فقال : أحبسه ؟ قال له علي : أله مال ؟ فإن قال : نعم ، قد لجأه مال ؟ قال : أقم البينة على أنه لجأه وإلا أحلفناه بالله ما لجأه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي عبيد نا أحمد بن عثمان عن عبد الله بن المبارك عن محمد بن سليم عن غالب القطان عن أبي المهزم عن أبي هريرة : أن رجلا أتاه بآخر فقال له إن لي على هذا دينا ؟ فقال للآخر : ما تقول ؟ قال : صدق ؟ قال : فاقضه قال : إني معسر ، فقال للآخر : ما تريد ؟ قال : أحبسه ؟ قال أبو هريرة : لا ، ولكن يطلب لك ولنفسه ولعياله - قال غالب القطان : وشهدت الحسن - وهو على القضاء - قضى بمثل ذلك .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة عن زيد بن حباب ، وعبيد الله كلاهما عن أبي هلال عن غالب القطان عن أبي المهزم عن أبي هريرة فذكره كما أوردناه - وزاد فيه أن أبا هريرة قال لصاحب الدين : هل تعلم له عين مال فآخذه به ؟ قال : لا ، قال : هل تعلم له عقارا [ ص: 480 ] أكسره ؟ قال : لا ، ثم ذكر امتناعه من أن يحبسه كما أوردناه .

                                                                                                                                                                                          وعن عمر بن عبد العزيز أنه قضى في ذلك بأن يقسم ماله بين الغرماء ثم يترك حتى يرزقه الله .

                                                                                                                                                                                          ونا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا أبو عامر العقدي عن عمرو بن ميمون بن مهران : أن عمر بن عبد العزيز كان يؤاجر المفلس في شر صنعة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أمر الله تعالى بالقيام بالقسط ، ونهى عن المطل والسجن ، فالسجن مطل وظلم ، ومنع الذي له الحق من تعجيل حقه مطل وظلم ، ثم ترك من صح إفلاسه لا يؤاجر لغرمائه مطل وظلم فلا يجوز شيء من ذلك ، وهو مفترض عليه إنصاف غرمائه وإعطاؤهم حقهم ، فإن امتنع من ذلك وهو قادر عليه بالإجارة ؟ أجبر على ذلك - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي عبيد حدثني يحيى بن بكير عن الليث بن سعد عن عبيد الله بن أبي جعفر في المفلس قال : لا يحبسه ، ولكن يرسله يسعى في دينه .

                                                                                                                                                                                          وهو قول الليث بن سعد - وبه يقول أبو سليمان ، وأصحابه - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية