الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن سورة الطلاق

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن قال أبو بكر : يحتمل تخصيص النبي بالخطاب وجوها : أحدها : اكتفاء بعلم المخاطبين بأن ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم خطاب لهم ، إذ كانوا مأمورين بالاقتداء به إلا ما خص به دونهم ، فخصه بالذكر ثم عدل بالخطاب إلى الجماعة ؛ إذ كان خطابه خطابا للجماعة .

والثاني : أن تقديره : يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم النساء .

والثالث : على العادة في خطاب الرئيس الذي يدخل فيه الأتباع ، كقوله تعالى : إلى فرعون وملئه

و قوله تعالى : فطلقوهن لعدتهن ؛ قال أبو بكر : روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه طلق امرأته في الحيض ، فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : مره فليراجعها وليمسكها حتى تطهر من حيضتها ثم تحيض حيضة أخرى فإذا طهرت فليفارقها قبل أن يجامعها أو يمسكها ، فإنها العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء رواه نافع عن ابن عمر وروى ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع ابن عمر يقول : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم : فطلقوهن في قبل عدتهن قال : طاهرا من غير جماع وروى وكيع عن سفيان عن محمد بن عبد الرحمن مولى أبي طلحة عن سالم عن ابن عمر : أنه طلق امرأته في الحيض ، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : مره فليراجعها ثم يطلقها وهي حامل أو غير حامل وفي لفظ آخر : فليطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها .

قال أبو بكر : بين النبي صلى الله عليه وسلم مراد الله في قوله [ ص: 347 ] تعالى : فطلقوهن لعدتهن وأن وقت الطلاق المأمور به أن يطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها ، وبين أيضا أن السنة في الإيقاع من وجه آخر وهو أن يفصل بين التطليقتين بحيضة بقوله : " يراجعها ثم يدعها حتى تطهر ثم تحيض حيضة أخرى ثم تطهر ثم يطلقها إن شاء " فدل ذلك على أن الجمع بين التطليقتين في طهر واحد ليس من السنة ، وما نعلم أحدا أباح طلاقها في الطهر بعد الجماع إلا شيئا رواه وكيع عن الحسن بن صالح عن بيان عن الشعبي قال : " إذا طلقها وهي طاهر فقد طلقها للسنة وإن كان قد جامعها " ، وهذا القول خلاف السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلاف إجماع الأمة ؛ إلا أنه قد روي عنه ما يدل على أنه أراد الحامل ، وهو ما رواه يحيى بن آدم عن الحسن بن صالح عن بيان عن الشعبي قال : " إذا طلقها حاملا فقد طلقها للسنة وإن كان قد جامعها " ، فيشبه أن يكون هذا أصل الحديث وأغفل بعض الرواة ذكر الحامل و قوله تعالى : فطلقوهن لعدتهن منتظم للواحدة وللثلاث مفرقة في الأطهار ؛ لأن إدخال " اللام " يقتضي ذلك ، كقوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل قد انتظم فعلها مكررا عند الدلوك ، فدل ذلك على معنيين :

أحدهما إباحة الثلاث مفرقة في الأطهار ، وإبطال قول من قال : " إيقاع الثلاث في الأطهار المتفرقة ليس من السنة " وهو مذهب مالك والأوزاعي والحسن بن صالح والليث والثاني : تفريقها في الأطهار وحظر جمعها في طهر واحد ؛ لأن قوله : لعدتهن يقتضي ذلك لا فعل الجميع في طهر واحد ، كقوله تعالى : لدلوك الشمس لم يقتض فعل صلاتين في وقت واحد وإنما اقتضى فعل الصلاة مكررة في الأوقات وقول أصحابنا : إن طلاق السنة من وجهين :

أحدهما : في الوقت ، وهو أن يطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها .

والآخر : من جهة العدد ، وهو أن لا يزيد في الطهر الواحد على تطليقة واحدة والوقت مشروط لمن يطلق في العدة ؛ لأن من لا عدة عليها بأن كان طلقها قبل الدخول فطلاقها مباح في الحيض لقوله تعالى : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة فأباح طلاقها في كل حال من طهر أو حيض ، وقد بينا بطلان قول من قال : إن جمع الثلاث في طهر واحد من السنة ومن منع إيقاع الثلاث في الأطهار المتفرقة في سورة البقرة

فإن قيل : لما جاز طلاق الحامل بعد الجماع كذلك الحائل يجوز طلاقها في الطهر بعد الجماع ، قيل له : لا حظ للنظر مع الأثر واتفاق السلف ، ومع ذلك فإن الفرق بينهما واضح وهو أنه إذا طهرت [ ص: 348 ] من حيضتها ثم جامعها لا ندري لعلها قد حملت من الوطء وعسى أن لا يريد طلاقها إن كانت حاملا فيلحقه الندم ، وإذا لم يجامعها بعد الطهر فإن وجود الحيض علم براءة الرحم فيطلقها وهو على بصيرة من طلاقها .

التالي السابق


الخدمات العلمية