الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 26 ] مالك عن سعيد بن إسحاق ، ويقال سعد حديث واحد

وهو سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكرنا جده كعب بن عجرة في كتاب الصحابة بما يغني عن ذكره هاهنا ، وهو من حليف لبني سالم من الأنصار ، وسعد بن إسحاق هذا ثقة ، لا يختلف في ثقته وعدالته ، روى عنه مالك ، ومعمر ، والثوري ، والقطان ، وشعبة ، وكان من ساكني المدينة ، وبها كانت وفاته سنة أربعين ومائة .

وروى عنه من الجلة : ابن شهاب ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وقد قيل : إن هذا الحديث رواه ابن شهاب ، عن مالك ، فقال فيه : حدثني رجل من أهل المدينة يقال له مالك بن أنس ، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن عمته زينب بنت كعب ، عن الفريعة بنت مالك بن سنان - فذكر الحديث . رواه أحمد بن شبيب ، عن أبيه ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، كتبناه عن خلف بن قاسم من وجوه ، وأحمد بن شبيب يتكلمون فيه .

[ ص: 27 ] مالك ، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة ، أن الفريعة بنت مالك بن سنان - وهي أخت أبي سعيد الخدري - أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة ، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه ، قالت : فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة ، فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة ، قالت : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : نعم ، قالت : فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ، ناداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أمرني ، فنوديت له ، فقال : كيف قلت ؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي ، فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ، قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا ، قالت : فلما كان عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك ، فأخبرته فاتبعه وقضى به .

هكذا قال يحيى : سعيد بن إسحاق ، وتابعه بعضهم ، وأكثر الرواة يقولون : فيه سعد بن إسحاق - وهو الأشهر ، وكذلك قال : شعبة وغيره .

وقال عبد الرزاق في هذا الحديث : عن الثوري ، ومعمر عن سعيد بن إسحاق - كما قال يحيى ، كذلك في كتاب الدبري [ ص: 28 ] أخبرنا خلف بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن لكعب بن عجرة ، قال : حدثتني عمتي - وكانت تحت أبي سعيد الخدري - أن فريعة حدثتها أن زوجها خرج في طلب أعلاج أباق ، حتى إذا كان بطرف القدوم - وهو جبل - أدركهم فقتلوه ، قالت : فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له أن زوجها قتل ، وأنه تركها في مسكن ليس له ، واستأذنته في الانتقال ، فأذن لها فانطلقت ، حتى إذا كانت بباب الحجرة ، أمر بها فردت ، وأمرها أن تعيد عليه حديثها ، ففعلت ، فأمرها ألا تبرح حتى يبلغ الكتاب أجله .

قال : وأخبرنا معمر ، عن سعيد بن إسحاق ، قال : أحمد بن خالد ، كذا قرأ علينا الدبري سعيد بن إسحاق ، وإنما أعرفه سعد بن إسحاق ، فقرأ علينا عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة أنه حدثه عن عمته زينب ابنة كعب بن فريعة : بهذا الحديث ، وزاد معمر : فلما كان في زمن عثمان أتت امرأة تسأله عن ذلك ، قالت : فريعة ، فذكرت له ، فأرسل إلي ، فسألني ، فأخبرته ، فأمرها ألا تخرج من بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله .

قال : وأخبرنا الثوري ، عن سعيد بن إسحاق - هكذا قال : سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن عمته زينب ابنة كعب بن عجرة ، عن فريعة ابنة مالك [ ص: 29 ] - أن زوجها قتل بالقدوم ، قالت : فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت له إن لها أهلا ، فأمرها أن تنتقل ، فلما أدبرت دعاها ، فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله - أربعة أشهر وعشرا .

قال : وأخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن أبي بكر أن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، أخبره عن عمته زينب ابنة كعب بن عجرة - أن فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري - أخبرتها أن زوجا لها خرج حتى إذا كان من المدينة على ستة أميال عند طرف جبل يقال له القدوم ، تعادى عليه اللصوص فقتلوه ، وكانت فريعة في بني الحارث بن الخزرج في مسكن لم يكن لبعلها ، إنما كان سكناها ، فجاءها إخوتها - فيهم أبو سعيد الخدري - فقالوا ليس بأيدينا سعة فنعطيك ونمسك ولا يصلحنا إلا أن نكون جميعا ، ونخشى عليك الوحش ، فسلي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقصت عليه ما قال إخوتها بالوحشة ، واستأذنته في أن تعتد عندهم ، فقال : افعلي إن شئت ، قالت : فأدبرت حتى إذا كنت في الحجرة ، قال : تعالي عودي لما قلت ، فعادت ، فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ، ثم إن عثمان بعثت إليه أمرأة من قومه تسأله أن تنتقل من بيت زوجها فتعتد في غيره ، فقال : افعلي ، ثم قال لمن حوله : هل مضى من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من صاحبي في مثل هذا شيء ؟ فقالوا : إن فريعة تحدث ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إليها ، فأخبرته ، فانتهى إلى قولها ، وأمر المرأة أن لا تخرج من بيتها .

قال : ابن جريج : وأخبرت أن هذه المرأة التي أرسلت إلى عثمان أم أيوب بنت ميمون بن عامر الحضرمي ، وأن زوجها عمران بن طلحة بن عبيد الله .

[ ص: 30 ] هكذا قال : عبد الله بن أبي بكر وسعد بن إسحاق ، وكذلك قال يحيى القطان : حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، قال : حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن يوسف ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا محمد بن مسعود ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، قال : حدثني سعد بن إسحاق ، قال : حدثتني زينب بنت كعب ، عن فريعة بنت مالك ، قالت : خرج زوجي في طلب أعلاج ، فأدركهم بطرف القدوم ، فقتلوه ، فأتى نعيه - وأنا في دار شاسعة من دور أهلي ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت له : إني أتاني نعي زوجي وأنا في دار شاسعة من دور أهلي ، ولم يدع لي نفقة ، ولا مالا ورثته ، وليس المسكن لي ، فلو تحولت إلى إخوتي وأهلي كان أرفق بي في بعض شأني ، فقال : تحولي ، فلما خرجت من المسجد أو الحجرة ، دعاني أو أمر من دعاني ، فدعيت له ، فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ، فاعتدت أربعة أشهر وعشرا ، فأرسل إلي عثمان ، فأتيته ، فحدثته ، فأخذ به .

أخبرنا قاسم بن محمد ، قال : حدثنا خالد بن سعد ، قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن منصور ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن سنجر ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، قال : حدثني يحيى بن سعيد ، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن عمته زينب بنت كعب ، أنها سمعت فريعة ابنة مالك بن سنان تحدث أن زوجها قتل بمكان بالمدينة ، يسمى طرف القدوم ، وأن فريعة ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تريد أن تنتقل من بيت زوجها إلى أهلها فذكرت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص لها في ذلك ، فقامت ، ثم دعا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله .

[ ص: 31 ] في هذا الحديث إيجاب العمل بخبر الواحد ، ألا ترى إلى عمل عثمان بن عفان به وقضائه باعتداد المتوفى عنها ( زوجها ) في بيتها من أجله - في جماعة الصحابة من غير نكير .

وفي هذا الحديث - وهو حديث مشهور معروف - عند علماء الحجاز والعراق أن المتوفى عنها زوجها ، عليها أن تعتد في بيتها ولا تخرج منه ، وهو قول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر ، منهم : مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهم ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وهو قول عمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وابن مسعود ، وغيرهم ، وكان داود وأصحابه يذهبون إلى أن المتوفى عنها زوجها ليس عليها أن تعتد في بيتها ، وتعتد حيث شاءت ، لأن السكنى إنما ورد به القرآن في المطلقات ، ومن حجته : أن المسألة مسألة اختلاف ، قالوا : وهذا الحديث إنما ترويه معروفة بحمل العلم ، وإيجاب السكنى إيجاب حكم ، والأحكام لا تجب إلا بنص كتاب أو سنة ثابتة أو إجماع .

قال : أبو عمر :

أما السنة فثابتة بحمد الله ، وأما الإجماع فمستغنى عنه مع السنة ، لأن الاختلاف إذا نزل في مسألة ، كانت الحجة في قول من وافقته السنة - وبالله التوفيق .

وأما الاختلاف في هذه المسألة ، فذكر عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء ، عن ابن عباس ، قال : إنما قال الله : تعتد أربعة [ ص: 32 ] أشهر وعشرا ، ولم يقل في بيتها ، قال : وأخبرني عطاء أن عائشة حجت واعتمرت بأختها بنت أبي بكر في عدتها ، وكان قتل عنها زوجها طلحة بن عبيد الله ، قال عطاء : ولا يضر المتوفى عنها أين اعتدت .

قال : ابن جريج : وأخبرني ابن شهاب ، عن عروة ، قال : خرجت عائشة بأختها أم كلثوم حين قتل عنها زوجها : طلحة بن عبيد الله إلى مكة في عمرة ، قال : عروة وكانت عائشة تفتي المتوفى عنها زوجها بالخروج في عدتها .

قال : وأخبرنا الثوري ، عن عبيد الله بن عمر أنه سمع القاسم بن محمد يقول : أبى الناس ذلك عليها : وعن الثوري وغيره ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن علي - رضي الله عنه - أنه انتقل ابنته أم كلثوم في عدتها - وقتل عنها عمر - رحمه الله .

[ ص: 33 ] ، قال : وأخبرنا معمر ، عن الزهري ، قال : أخذ المترخصون في المتوفى عنها بقول عائشة ، وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر .

قال : وأخبرنا معمر ، وابن جريج ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : لا تنتقل المتوفى عنها إلا أن ينتوي أهلها منزلا فتنتوي معهم - وهو قول ابن شهاب - وأما إذا كان المسكن بكراء ، فقال مالك : هي أحق بسكناه من الورثة والغرماء من رأس مال المتوفى ، إلا أن لا يكون فيه عقد لزوجها وأراد أهل المسكن إخراجها ، وإذا كان المسكن لزوجها ، لم يبع في دينه حتى تنقضي عدتها ، وهذا كله قول الشافعي ، وأبي حنيفة ، وجمهور العلماء - وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية