الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت: هذا القول هو في الأصل من أقوال المعتزلة، وقد أوجب أبو هاشم وطائفة معه الشك، وجعلوه أول الواجبات.

ومن لم يوجبه من الموافقين على أصل القول، قال إنه لابد من حصوله، وإن لم يؤمر به.

وهذا بناء على أصلين: أحدهما: أن أول الواجبات النظر المفضي إلى العلم. والثاني: أن النظر يضاد العلم، فإن الناظر طالب للعلم، فلا يكون في حال النظر عالما.

وكلا الأصلين باطل. أما الأول، فقد عرف الكلام فيه. وأما الثاني، فإن النظر نوعان: أحدهما: النظر المتضمن طلب الدليل، [ ص: 420 ] وهو كالنظر في المسؤول عنه ليعلم ثبوته أو انتفاؤه، كالنظر في مدعي النبوة: هل هو صادق أو كاذب؟ والنظر في رؤية الله تعالى: هل هي ثابتة في الآخرة أم منتفية؟ والنظر في النبيذ المسكر: أحلال هو أم حرام؟

فهذا الناظر طالب، وهو في حال طلبه شاك. وليس هذا النظر هو النظر المقتضي للعلم، فإن ذلك هو النظر فيما يتضمن النظر فيه للعلم، وهو النظر في الدليل، كالنظر في الآية والحديث، أو القياس الذي يستدل به، فهذا النظر مقتض للعلم، مستلزم له. وذلك النظر مضاد للعلم مناف له.

ولما كان في لفظ (النظر) إجمال، كثر اضطراب الناس في هذا المقام، وتناقض من تناقض منهم، فيوجبون النظر لأنه يتضمن العلم، ثم يقولون: النظر يضاد العلم. فكيف يكون ما يتضمن العلم مضادا له لا يجتمعان؟

فمن فرق بين النظر في الدليل، وبين النظر الذي هو طلب الدليل، تبين له الفرق. والنظر في الدليل لا يستلزم الشك في المدلول، بل قد يكون في القلب ذاهلا عن الشيء، ثم يعلم دليله، فيعلم المدلول، وإن لم [ ص: 421 ] يتقدم ذلك شك وطلب. وقد يكون عالما به، ومع هذا ينظر في دليل آخر، لتعلقه بذلك الدليل، فتوارد الأدلة على المدلول الواحد كثير، لكن هؤلاء لزمهم المحذور، لأنهم إنما أوجبوا عليه النظر، فإذا أوجبوه لزم انتفاء العلم بالمدلول، فيكون الناظر طالبا للعلم، فيلزم أن يكون شاكا، فصاروا يوجبون على كل مسلم: أنه لا يتم إيمانه حتى يحصل له الشك في الله ورسوله بعد بلوغه، سواء أوجبوه، أو قالوا: هو من لوازم الواجب.

ومن غلطهم أيضا. أنه لو قدر أن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر، فليس من شرط ذلك تأخر النظر إلى البلوغ، بل النظر قبل ذلك ممكن، بل واقع، فتكون المعرفة قد حصلت بذلك النظر، وإن لم يكن واجبا كما لو تعلم الصبي أم الكتاب وصفة الصلاة قبل البلوغ، فإن هذا التعلم يحصل به مقصود الوجوب بعد البلوغ، والنظر إنما هو واجب وجوب الوسائل، فحصوله قبل وقت وجوبه أبلغ في حصول المقصود.

ونظير ذلك: أن يتوضأ الصبي قبل البلوغ، والبالغ قبل دخول وقت الصلاة، فيحصل بذلك مقصود الوجوب بعد البلوغ والوقت.

والكلام في هذه المسألة له شعب كثيرة، وقد تكلم عليها في غير هذا الموضع. والمقصود هنا بيان طرق كثير من أهل العلم في تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم. وتحقيق هذه المسألة يتعلق بمسائل: منها: أن [ ص: 422 ] الاعتقاد الجازم بلا ضرورة ولا استدلال: هل يمكن أم لا؟ وإذا أمكن: فهل يسمى علما أم لا؟

ومنها: أن لفظ (الضرورة) فيه إجمال. فقد يراد به ما يضطر إليه الإنسان من المعلومات الظاهرة المشتركة بين الناس. وقد يراد به ما يحصل في نفسه بدون كسبه. وقد يراد به ما لا يقبل الشك. وقد يراد به ما يلزم نفس الإنسان لزوما لا يمكن الانفكاك عنه.

ومنها: أن حصول العلم في النفس قد يحصل لكثير من الناس حصولا ضروريا، مع توهمه أنه لم يحصل له، كما يقع مثل ذلك في القصد والنية، فإن الأمة متفقة على أن الصلاة ونحوها من العبادات لا تصح إلا بالنية من جنس القصد، والإرادة محلها القلب باتفاقهم، فلو لفظ بلسانه غير ما قصد بقلبه أو بالعكس، كان الاعتبار بقصده الذي في قلبه.

ثم إن كثيرا من الناس اشتبه عليهم أمر النية، حتى صار أحدهم يطلب حصولها وهي حاصلة عنده، ويشك في حصولها في نفسه وهي حاصلة، لا سيما إذا اعتقد أنه يجب مقارنة النية للصلاة، فيرى في أحدهم من الوسواس في حصولها ما يخرجه عن العقل والدين، حتى قيل: الوسوسة لا تكون إلا عن خبل في العقل، أو جهل بالشرع.

وأصل ذلك جهلهم بحقيقة النية وحصولها، مع خروجهم عن الفطرة السليمة، التي فطر الله عليها عباده.

ومن المعلوم أن كل من علم [ ص: 423 ] ما يريد أن يفعله، فلا بد أن ينويه ويقصده، فيمتنع أن يفعل العبد فعلا باختياره، مع علمه به وهو لا يريده، فالمصلي إذا خرج من بيته وهو يعلم أنه يريد الصلاة، امتنع أن لا يقصد الصلاة ولا ينويها. وكذلك الصائم إذا علم أن غدا من رمضان وهو ممن يصومه، امتنع أن لا ينويه. وكذلك المتطهر إذا أخذ الماء وهو يعلم أن مراده الطهارة، امتنع أن لا يريدها.

وإنما يتصور عدم النية مع الجهل بالمفعول، أو مع أنه ليس مقصوده المأمور به، مثل من يظن أن وقت الصلاة أو الصيام قد خرج، فيصوم ويصلي ظانا أن ذلك قضاء بعد الوقت، فهذا نوى القضاء، فإذا تبين له بعد ذلك أن الصوم والصلاة إنما كانا في الوقت، إذا فهذا يجزئه الصلاة والصيام بلا نزاع.

وكذلك من اغتسل بالماء لقصد إزالة الوسخ، أو لتعليم الغير، فهذا لم يكن مراده بما فعله الطهارة المأمور بها. ولهذا تنازع الفقهاء في صحة الصلاة بمثل هذه الطهارة، وأمثال ذلك.

ولهذا يجد المسلم في نفسه فرقا بين ليلة العيد الذي يعلم أنه لا يصومه، وبين ليالي رمضان الذي يعلم أنه يصومه. ويجد الفرق بين ما إذا كان مقيما أو مسافرا يريد الصيام، وبين ما إذا كان مسافرا لا يريد الصيام. [ ص: 424 ]

فكما أن الإرادة تكون موجودة في نفس الإنسان، وقد يشك في وجودها، أو لا يحسن أن يعبر عن وجودها، أو يطلب وجودها فهكذا العلم الضروري وغيره، قد يكون حاصلا في نفس الإنسان، وهو يشك في وجوده، أو يطلب وجوده، أو لا يحسن أن يعبر عنه، لأن وجود الشيء في النفس شيء، والعلم بوجوده في النفس شيء آخر، فالتمييز بينه وبين غيره والتعبير عن ذلك شيء آخر.

فهكذا عامة المؤمنين: إذا حصل أحدهم في سن التمييز يحصل له من الأسباب، التي توجب معرفته بالله وبرسوله، ما يحصل بها في نفسه علم ضروري ويقين قوي، كحصول الإرادة لمن علم ما يريد فعله، ثم كثير من أهل الكلام يلبسون عليه ما حصل له ويشككونه فيه، كما أن كثيرا من الفقهاء يلبسون على المريد الناوي ما حصل له ويشككونه فيه.

والعلم الحاصل في النفس لا تنضبط أسبابه، ومنه ما يحصل دفعة، كالعلم بما أحسه. ومنه ما يحصل شيئا بعد شيء، كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة، والعلم بمدلول القرائن التي لا يمكن التعبير عنها.

وكذلك حصول الإرادة، فإن من الأشياء ما تحصل إرادته الجازمة في النفس، كإرادة الأشياء الضرورية التي لا بد له منها، كإرادة دفع [ ص: 425 ] الأمور الضارة له، وكإرادة الجائع الشديد الجوع، والعطشان الشديد العطش، لتناول ما تيسر له من الطعام والشراب.

ومنه ما يحصل شيئا بعد شيء، كإرادة الإنسان لما هو أكمل له وأفضل، فإن هذا قد تحصل إرادته شيئا بعد شيء.

وكذلك إرادته لما يشك في كونه محتاجا إليه، أو كونه نافعا له، فإن الإرادة قد تقوى بقوة العلم، وقد تضعف بضعفه، وقد تقوى بقوة نفس محبة الشيء المطلوب وضعف محبته.

ومن عرف حقيقة الأمر تبين له أن النفوس فيها إرادات فطرية، وعلوم فطرية، وأن كثيرا من أهل الكلام في العلم قد يظنون عدم حصولها، فيسعون في حصولها، وتحصيل الحاصل ممتنع، فيحتاجون أن يقدروا عدم الموجود، ثم يسعون في وجوده، ومن هنا يغلط كثير من الخائضين في الكلام والفقه.

وقد يكون العلم والإرادة حاصلين بالفعل، أو بالقوة القريبة من الفعل، مع نوع من الذهول والغفلة، فإذا حصل أدنى تذكر رجعت النفس إلى ما فيها من العلم والإرادة، أو توجهت نحو المطلوب، فيحصل لها معرفته ومحبته. [ ص: 426 ]

والله تعالى فطر عباده على محبته ومعرفته، وهذه هي الحنيفية التي خلق عباده عليها، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا.

وقد قال تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم [سورة الروم: 30].

وقال صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ والكلام في هذه الأمور مذكور في غير هذا الموضع.

ومن المسائل المتعلقة بهذا الباب أن العلم والإيمان واجب على الناس بحسب الإمكان، فالجمل التي فرض الله تعالى على الخلق كلهم الإقرار بها مما يمكنهم معرفتها. وأما التفاصيل ففيها من الدقيق ما لا يمكن أن يعرفه إلا بعض الناس، فلو كلف بقية الناس معرفته، كلفوا ما لا يطيقون، ولهذا لم يجب على كل أحد أن يسمع كل آية في القرآن ويفهم معناها، وإن كان هذا فرضا على الكفاية. [ ص: 427 ]

ومن المعلوم أنه في تفاصيل آيات القرآن من العلم والإيمان ما يتفاضل الناس فيه تفاضلا لا ينضبط لنا. والقرآن الذي يقرأه الناس بالليل والنهار يتفاضلون في فهمه تفاضلا عظيما، وقد رفع الله بعض الناس على بعض درجات، كما قال تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [سورة المجادلة: 11]، بل من الأخبار ما إذا سمعه بعض الناس ضرهم ذلك، وآخرون عليهم أن يصدقوا بمضمون ذلك ويعلموه، قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ وقال [عبد الله] ابن مسعود رضي الله عنه: ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم.

فمثل هذه الأحاديث التي سمعت من الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ممن سمعها منه، وعلم أنه قالها، يجب على من سمعها أن يصدق بمضمونها، وإذا فهم المراد كان عليه معرفته والإيمان به. وآخرون لا يصلح لهم أن يسمعوها في كثير من الأحوال، وإن كانوا في حال أخرى يصلح لهم سماعها ومعرفتها.

والقرآن مورد يرده الخلق كلهم، وكل ينال منه على مقدار ما قسم الله له.

قال تعالى: [ ص: 428 ] أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال [سورة الرعد: 17].

وهذا مثل ضربه الله سبحانه لما أنزل من العلم والإيمان والقلوب التي تنال ذلك، شبه الإيمان بالماء النازل، والقلوب بالأودية، فمنها كبار ومنها صغار، وبين أن الماء كما يختلط بما يكون في الأرض، كذلك القلوب فيها شبهات وشهوات تخالط الإنسان، وأخبر أن ذلك الزبد يجفأ [جفاء]، وما ينفع [الناس] يمكث في الأرض، كذلك الشبهات تجفوها القلوب، وما ينفع يمكث فيها.

وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا ورعوا، وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في [ ص: 429 ] دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.

وما ذكره ابن حزم من أن العلم قد يحصل في القلب لا عن ضرورة ولا نظر، ورده على من يحصره في النوعين فمثل هذا قد يكون النزاع فيه لفظيا. وذلك أن نافي الحصر قد يريد بالضرورة ما كان عن ضرورة حس، وأولئك يجعلون ما يحصل من العلم الضروري بالحس أحد أنواع العلم الضروري وقد يريد بالضرورة ما يضطر إليه الإنسان بدون نظر في تصوره. وأولئك يريدون بالعلم الضروري والبديهي ما اضطر إليه الإنسان إذا تصور طرفيه، سواء كان ذلك التصور ضروريا أو لم يكن، بل كثير من الناس يقول: إن جميع العلوم ضرورية باعتبار أسبابها، فإن العلم الحاصل بالنظر والكسب والاستدلال هو بعد حصول أسبابه ضروري، يضطر إليه الإنسان، وهذا اختيار أبي المعالي وغيره.

وللناس في هذا الباب اصطلاحات متعددة، من لم يعرفها يجعل بينهم نزاعا معنويا، وليس كذلك. كما أن طائفة منهم يجعلون العلم البديهي هو الضروري، والكسبي هو النظري. ومنهم من يفرق بينهما، فيجعلون الضروري ما اضطر إليه العبد من غير عمل وكسب منه، لا في [ ص: 430 ] تصور المسألة ولا دليلها ويجعلون البديهي ما بدهه، وإن كان عن نظر اضطر إليه [من غير كسب منه]، فإن العبد قد يضطر إلى أسباب العلم. وقد يختار اكتساب أسبابه. وهذا في الحسيات وغيرها، كمن يفجأه ما يراه ويسمعه، من غير قصد إلى رؤيته وسمعه، ومن يسعى في رؤية الشيء واستماعه. والأول لا يدخل تحت الأمر والنهي. والثاني يدخل تحت الأمر والنهي.

التالي السابق


الخدمات العلمية