الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وأما قوله: «يراد بها ذات الشيء وعينه كقوله تعالى: وما يخدعون إلا أنفسهم [البقرة: 9] وقوله: فاقتلوا أنفسكم [البقرة: 54] ولكن ظلموا أنفسهم [هود: 101] فلا يراد بها ذات كل شيء وعين كل شيء، اللهم إلا أن يكون في التوكيد، فإذا قالوا: الأنفس والنفوس، لم يفهم منه ما لا حياة له ولا فعل كالجمادات؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار».

[ ص: 471 ] وأما قوله تعالى: فاقتلوا أنفسكم فهو نظير قوله: لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا [النور: 12] وقوله: ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم [البقرة: 85] وقوله: ولا تلمزوا أنفسكم [الحجرات: 11] أي: يقتل بعضكم بعضا، وسمى الجميع نفسا، أي: لا يقتل إلا من هو منكم لا يكون من غيركم؛ لأن المتفقين في مقصود الحياة والفعل يكونون كالشيء الواحد.

قوله: «لفظ النفس في حق الله تعالى ليس إلا الذات والحقيقة».

[ ص: 472 ] يقال له: أتريد أن معنى اللفظ مطلق ذات ما، وحقيقة ما، أم ذات وحقيقة قائمة بنفسها مستلزمة للحياة والفعل، ونحو ذلك؟

أما الأول فممنوع، والثاني فمسلم، وبهذا يتبين أن أهل الوسط يثبتون ما أثبته الطائفتان من الحق، ويجمعون بين قوليهما، فإن هؤلاء أثبتوا من مسمى اللفظ مطلق الذات، وأولئك أثبتوا الصفة الخاصة، وأهل الوسط أثبتوا الأمرين؛ فإن اللفظ دال على الذات وعلى خصوص الصفة.

قوله: واصطنعتك لنفسي [طه: 41] كالتأكيد الدال على مزيد المبالغة؛ فإن الإنسان إذا قال: «جعلت هذه الدار لنفسي» فهم منه المبالغة.

يقال له: التأكيد يقتضي ثبوت المعنى المؤكد، فما المعنى المؤكد الذي أكد بهذا الكلام؟ هذا لم يثبته ولم يبين هل التوكيد بذكر لفظ النفس أم بالإضافة إلى الله تعالى؟ وقد قال غيره [ ص: 473 ] كابن فورك: «اصطنعتك لنفسي» لذاتي أو لرسالتي.

والآية تقتضي أنه اصطنع موسى لنفسه، واصطنع افتعل من صنع، أي: صنعه لنفسه، فيكون خالصا له مخلصا له الدين، كما قال تعالى: واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا [مريم: 51] ويشبهه قول أم مريم: إني نذرت لك ما في بطني محررا [آل عمران: 35] لكن هناك الله هو الذي اصطنعه لنفسه، فإن من كان في عمله وسعيه شيء لغير الله يكون كالذي فيه شركاء متشاكسون، بخلاف الذي يكون كله لله، وقد تضمن ذلك أنه يحبه، كما قال قبل هذه الكلمة: وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله [طه: 39 - 40] إلى قوله: ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي [طه: 40 - 41].

وجاء في حديث أبي هريرة الذي فيه تحاج آدم وموسى: «قال آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله برسالاته، واصطنعك لنفسه، وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم» ومعلوم أن الأنبياء وسائر عباد الله هم درجات [ ص: 474 ] [ ص: 475 ] عند الله في عبوديتهم لله، وإخلاصهم له، ومحبته لهم، وقربهم منه، فاصطناع الله موسى لنفسه له من الخصوص ما لا يشركه فيه من موسى أفضل منه، وإن كان الجميع عباد الله المخلصين له الدين.

وقد قال القاضي: «تأويل قوله تعالى: واصطنعتك لنفسي [طه: 41] معناه: لذاتي ورسالتي، لا يصح؛ لأنه لا فائدة للتخصيص بموسى؛ لأن غيره من الأنبياء اصطنعه لذاته ورسالته، فوجب أن يكون لتخصيص النفس هنا فائدة».

فيقول له منازعوه: وكذلك لو كانت النفس صفة لم يكن [ ص: 476 ] موسى مخصوصا بالاصطناع لها؛ فإن الاصطناع لله أعظم من الاصطناع لصفة من صفاته.

وأيضا فالعباد لا يصطنعهم الله لصفة من الصفات، وإنما يصطنعهم الله له نفسه.

التالي السابق


الخدمات العلمية