الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 105 ] / ومن باب الإشارة في الآيات أن قوله سبحانه : لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم إلخ إشارة إلى أنه لا ينبغي للعبد أن يحتجب بشيء عن مشاهدة الله تعالى والتوكل عليه ومن احتجب بشيء وكل إليه ، ومن هنا قالوا : استجلاب النصر في الذلة والافتقار والعجز ، ولما رأى سبحانه ندم القوم على عجبهم بكثرتهم ردهم إلى ساحة جوده وألبسهم أنوار قربه وأمدهم بجنوده وإليه الإشارة بقوله تعالى : ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين الآية ، وكانت سكينته عليه الصلاة والسلام كما قال بعض العارفين من مشاهدة الذات، وسكينة المؤمنين من معاينة الصفات ، ولهم في تعريف السكينة عبارات كثيرة متقاربة المعنى فقيل : هي استحكام القلب عند جريان حكم الرب بنعت الطمأنينة بخمود آثار البشرية بالكلية والرضا بالبادي من الغيب من غير معارضة واختيار ، وقيل : هي القرار على بساط الشهود وبشواهد الصحو والتأدب بإقامة صفاء العبودية من غير لحوق مشقة ولا تحرك عرق بمعارضة حكم وقيل : هي المقام مع الله تعالى بفناء الحظوظ ، والجنود روادف آثار قوة تجلي الحق سبحانه ، ويقال : هي وفود اليقين وزوائد الاستبصار .

                                                                                                                                                                                                                                      والإشارة في قوله تعالى : إنما المشركون نجس إلخ إلى أن من تدنس بالميل إلى السوى وأشرك بعبادة الهوى لا يصلح للحضرة، وهل يصلح لبساط القدس إلا المقدس ، وذكر أبو صالح حمدون أن المشرك في عمله من يحسن ظاهره لملاقاة الناس ومخالطتهم ويظهر للخلق أحسن ما عنده وينظر إلى نفسه بعين الرضا عنها، وينجس باطنه بنحو الرياء ، والسمعة ، والعجب ، والحقد ، ونحو ذلك فالحرم الإلهي حرام على هذا وهيهات هيهات أن يلج الملكوت أو يلج الجمل في سم الخياط ، وقال بعض العارفين : من فقد طهارة الإسرار بماء التوحيد وبقي في قاذورات الظنون والأوهام فذلك هو المشرك وهو ممنوع عن قربان المساجد التي هي مشاهد القرب ، وفي الآية إشارة إلى منع الاختلاط مع المشركين ، وقاس الصوفية أهل الدنيا بهم ، ومن هنا قال الجنيد : الصوفية أهل غيب لا يدخل فيهم غيرهم ، وقال بعضهم : من بقي في قلبه نظر إلى غير خالقه لا يجوز أن يدنو إلى مجالس الأولياء غير مستشف بهم فإن صحبته تشوش خواطرهم وينجس بنفسه أنفاسهم ، وصحبة المنكر على أولياء الله تعالى تورث فتقا يصعب على الخياط رتقه وتؤثر خرقا يعيي الواعظ رقعه ، ومن الغريب ما يحكى أن الجنيد قدس سره جلس يوما مع خاصة أصحابه وقد أغلق باب المجلس حذرا من الأغيار وشرعوا يذكرون الله تعالى فلم يتم لهم الحضور وفتح لهم باب التجلي الذي يعهدونه عند الذكر فتعجبوا من ذلك فقال الجنيد ، هل معكم منكر حرمنا بسببه؟ فقالوا : لا ، ثم اجتهدوا في معرفة المانع فلم يجدوا إلا نعلا لمنكر فقال الجنيد : من هنا أوتينا ، فانظر يرحمك الله تعالى إذا كان هذا حال نعل المنكر فما ظنك به إذا حضر بلحيته؟

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إنه سبحانه ذم أهل الكتابين بالاحتجاب عن رؤية الحق سبحانه حيث قال جل شأنه : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وفيه إشارة إلى ذم التقليد الصرف وذم البخلاء بقوله سبحانه : والذين يكنزون الذهب والفضة الآية ، ولعمري إنهم أحقاء بالذم ، وقد قال بعضهم : من بخل بالقليل من ملكه فقد سد على نفسه باب نجاته وفتح عليها طريق هلاكه .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يخفى أن جمع المال وكنزه وعدم الإنفاق لا يكون إلا لاستحكام رذيلة الشح وكل رذيلة كية يعذب بها صاحبها في الآخرة ويخزى بها في الدنيا ، ولما كانت مادة رسوخ تلك الرذيلة واستحكامها هي ذلك المال كان هو الذي يحمى عليه في نار جهنم الطبيعة وهاوية الهوى فيكوى صاحبه به ، وخصت هذه الأعضاء لأن [ ص: 106 ] الشح مركوز في النفس تغلب القلب من هذه الجهات لا من جهة العلو التي هي جهة استيلاء الروح وممد الحقائق والأنوار ولا من جهة السفلى التي هي جهة الطبيعة الجسمانية لعدم تمكن الطبيعة من ذلك، فبقيت سائر الجهات فيؤذى بذلك من الجهات الأربع ويعذب ، وهذا كما تراه يعاب في الدنيا ويخزى من هذه الجهات فيواجه بالذم جهرا فيفضح أو يسار في جنبه أو يغتاب من وراء ظهره قاله بعض العارفين ، ولهم في قوله سبحانه : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا تأويل بعيد يطلب من محله ، وقوله سبحانه : إلا تنصروه إلخ عتاب للمتثاقلين أو لأهل الأرض كافة وإرشاد إلى أنه عليه الصلاة والسلام مستغن بنصرة الله عن نصرة المخلوقين ، وفيه إشارة إلى رتبة الصديق رضي الله تعالى عنه فقد انفرد برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم انفراده عليه الصلاة والسلام بربه سبحانه في مقام قاب قوسين ، ومعنى إن الله معنا على ما قال ابن عطاء إنه معنا في الأزل حيث وصل بيننا بوصلة الصحبة، وأثر هذه المعية قد ظهر في الدنيا والآخرة فلم يفارقه حيا ولا ميتا ، وقيل : معنا بظهور عنايته ومشاهدته وقربه الذي لا يكيف ، ولله تعالى در من قال :


                                                                                                                                                                                                                                      يا طالب الله في العرش الرفيع به لا تطلب العرش إن المجد للغار



                                                                                                                                                                                                                                      ولا يخفى ما بين قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الله معنا وقول موسى عليه السلام : إن معي ربي من الفرق الظاهر لأرباب الأذواق حيث قدم نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم اسمه تعالى عليه وعكس موسى عليه السلام ، وأتى صلى الله تعالى عليه وسلم بالاسم الجامع وأتى الكليم باسم الرب ، وأتى عليه الصلاة والسلام بنا في ( معنا ) وأتى موسى عليه السلام بياء المتكلم لأن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم على خلق لم يكن عليه موسى عليه الصلاة والسلام .

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير في قوله تعالى : فأنزل الله سكينته عليه إن كان للصاحب فالأمر ظاهر وإن كان للنبي عليه الصلاة والسلام فيقال : في ذلك إشارة إلى مقام الفناء في الشيخ إذ ذاك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض الأكابر : أنزلت السكينة عليه عليه الصلاة والسلام لتسكين قلب الصديق رضي الله تعالى عنه وإذهاب الحزن عنه بطريق الانعكاس والإشراق ولو أنزلت على الصديق بغير واسطة لذاب لها ولعظمها فكأنه قيل : أنزل سكينة صاحبه عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      انفروا خفافا وثقالا أي انفروا إلى طاعة مولاكم خفافا بالأرواح ثقالا بالقلوب ، أو خفافا بالقلوب وثقالا بالأجسام بأن يطيعوه بالأعمال القلبية والقالبية ، أو خفافا بأنوار المودة وثقالا بأمانات المعرفة ، أو خفافا بالبسط وثقالا بالقبض ، وقيل : خفافا بالطاعة وثقالا عن المخالفة ، وقيل غير ذلك وجاهدوا بأموالكم بأن تنفقوها للفقراء ( وأنفسكم ) بأن تجودوا بها لله تعالى ذلكم خير لكم في الدارين إن كنتم تعلمون ذلك والله تعالى الموفق للرشاد .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية