الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله [ ص: 1532 ] الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين

                                                                                                                                                                                                                                        لما ذكر تعالى حكمه بين عباده، الذين جمعهم في خلقه ورزقه وتدبيره، واجتماعهم في الدنيا، واجتماعهم في موقف القيامة، فرقهم تعالى عند جزائهم، كما افترقوا في الدنيا بالإيمان والكفر، والتقوى والفجور، فقال: وسيق الذين كفروا إلى جهنم أي: سوقا عنيفا، يضربون بالسياط الموجعة، من الزبانية الغلاظ الشداد، إلى شر محبس وأفظع موضع، وهي جهنم التي قد جمعت كل عذاب، وحضرها كل شقاء، وزال عنها كل سرور، كما قال تعالى: يوم يدعون إلى نار جهنم دعا أي: يدفعون إليها دفعا، وذلك لامتناعهم من دخولها.

                                                                                                                                                                                                                                        ويساقون إليها زمرا أي: فرقا متفرقة، كل زمرة مع الزمرة التي تناسب عملها، وتشاكل سعيها، يلعن بعضهم بعضا، ويبرأ بعضهم من بعض. حتى إذا جاءوها أي: وصلوا إلى ساحتها فتحت لهم أي: لأجلهم أبوابها لقدومهم وقرى لنزولهم.

                                                                                                                                                                                                                                        وقال لهم خزنتها مهنئين لهم بالشقاء الأبدي، والعذاب السرمدي، وموبخين لهم على الأعمال التي أوصلتهم إلى هذا المحل الفظيع: ألم يأتكم رسل منكم أي: من جنسكم تعرفونهم وتعرفون صدقهم، وتتمكنون من التلقي عنهم؟ يتلون عليكم آيات ربكم التي أرسلهم الله بها، الدالة على الحق اليقين بأوضح البراهين.

                                                                                                                                                                                                                                        وينذرونكم لقاء يومكم هذا أي: وهذا يوجب عليكم اتباعهم والحذر من عذاب هذا اليوم، باستعمال تقواه، وقد كانت حالكم بخلاف هذه الحال؟

                                                                                                                                                                                                                                        قالوا مقرين بذنبهم، وأن حجة الله قامت عليهم: بلى قد جاءتنا رسل ربنا بآياته وبيناته، وبينوا لنا غاية التبيين، وحذرونا من هذا اليوم. ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين أي: بسبب كفرهم وجبت عليهم كلمة العذاب، التي هي لكل من كفر بآيات الله، وجحد ما جاءت به المرسلون، فاعترفوا بذنبهم وقيام الحجة عليهم.

                                                                                                                                                                                                                                        فـ قيل لهم على وجه الإهانة والإذلال: ادخلوا أبواب جهنم كل طائفة تدخل من الباب الذي يناسبها ويوافق عملها. خالدين فيها أبدا، لا يظعنون عنها، ولا يفتر عنهم العذاب ساعة ولا ينظرون. فبئس مثوى المتكبرين أي: بئس المقر، النار مقرهم، وذلك لأنهم تكبروا على الحق، فجازاهم الله من جنس عملهم، بالإهانة والذل، والخزي.

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 1533 ] ثم قال عن أهل الجنة: وسيق الذين اتقوا ربهم بتوحيده والعمل بطاعته، سوق إكرام وإعزاز، يحشرون وفدا على النجائب. إلى الجنة زمرا فرحين مستبشرين، كل زمرة مع الزمرة، التي تناسب عملها وتشاكله. حتى إذا جاءوها أي: وصلوا لتلك الرحاب الرحيبة والمنازل الأنيقة، وهب عليهم ريحها ونسيمها، وآن خلودها ونعيمها. وفتحت لهم أبوابها فتح إكرام، لكرام الخلق، ليكرموا فيها. وقال لهم خزنتها تهنئة لهم وترحيبا: سلام عليكم أي: سلام من كل آفة وشر حال. عليكم طبتم أي: طابت قلوبكم بمعرفة الله ومحبته وخشيته، وألسنتكم بذكره، وجوارحكم بطاعته. ( فـ ) بسبب طيبكم " ادخلوها خالدين " لأنها الدار الطيبة، ولا يليق بها إلا الطيبون.

                                                                                                                                                                                                                                        وقال في النار فتحت أبوابها وفي الجنة وفتحت بالواو، إشارة إلى أن أهل النار، بمجرد وصولهم إليها، فتحت لهم أبوابها من غير إنظار ولا إمهال، وليكون فتحها في وجوههم، وعلى وصولهم، أعظم لحرها، وأشد لعذابها.

                                                                                                                                                                                                                                        وأما الجنة، فإنها الدار العالية الغالية، التي لا يوصل إليها ولا ينالها كل أحد، إلا من أتى بالوسائل الموصلة إليها، ومع ذلك، فيحتاجون لدخولها لشفاعة أكرم الشفعاء عليه، فلم تفتح لهم بمجرد ما وصلوا إليها، بل يستشفعون إلى الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، حتى يشفع، فيشفعه الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                        وفي الآيات دليل على أن النار والجنة لهما أبواب تفتح وتغلق، وأن لكل منهما خزنة، وهما الداران الخالصتان، اللتان لا يدخل فيهما إلا من استحقهما، بخلاف سائر الأمكنة والدور.

                                                                                                                                                                                                                                        وقالوا عند دخولهم فيها واستقرارهم، حامدين ربهم على ما أولاهم ومن عليهم وهداهم: الحمد لله الذي صدقنا وعده أي: وعدنا الجنة على ألسنة رسله، إن آمنا وصلحنا، فوفى لنا بما وعدنا، وأنجز لنا ما منانا. وأورثنا الأرض أي: أرض الجنة نتبوأ من الجنة حيث نشاء أي: ننزل منها أي مكان شئنا، ونتناول منها أي نعيم أردنا، ليس ممنوعا عنا شيء نريده. فنعم أجر العاملين الذين اجتهدوا بطاعة ربهم، في زمن قليل منقطع، فنالوا بذلك خيرا عظيما باقيا مستمرا.

                                                                                                                                                                                                                                        وهذه الدار التي تستحق المدح على الحقيقة، التي يكرم الله [ ص: 1534 ] فيها خواص خلقه، ورضيها الجواد الكريم لهم نزلا وبنى أعلاها وأحسنها، وغرسها بيده، وحشاها من رحمته وكرامته ما ببعضه يفرح الحزين، ويزول الكدر، ويتم الصفاء.

                                                                                                                                                                                                                                        وترى الملائكة أيها الرائي ذلك اليوم العظيم حافين من حول العرش أي: قد قاموا في خدمة ربهم، واجتمعوا حول عرشه، خاضعين لجلاله، معترفين بكماله، مستغرقين بجماله. يسبحون بحمد ربهم أي: ينزهونه عن كل ما لا يليق بجلاله، مما نسب إليه المشركون وما لم ينسبوا.

                                                                                                                                                                                                                                        وقضي بينهم أي: بين الأولين والآخرين من الخلق بالحق الذي لا اشتباه فيه ولا إنكار، ممن عليه الحق. وقيل الحمد لله رب العالمين لم يذكر القائل من هو، ليدل ذلك على أن جميع الخلق نطقوا بحمد ربهم وحكمته على ما قضى به على أهل الجنة وأهل النار، حمد فضل وإحسان، وحمد عدل وحكمة.

                                                                                                                                                                                                                                        تم تفسير سورة الزمر بحمد الله وعونه.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية