الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم أي لا يروقك شيء من ذلك فإنه استدراج لهم ووبال عليهم، حسبما ينبئ عنه قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ) والخطاب يحتمل أن يكون للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأن يكون لكل من يصلح له على حد ما قيل في نحو قوله تعالى : ( لا تشرك بالله ) ومفعول الإرادة قيل : التعذيب واللام زائدة وقيل : محذوف واللام تعليلية ، أي يريد إعطاءهم لتعذيبهم ، وتعذيبهم بالأموال والأولاد في الدنيا لما أنهم يكابدون بجمعها وحفظها المتاعب ويقاسون فيها الشدائد والمصائب وليس عندهم من الاعتقاد بثواب الله تعالى ما يهون عليهم ما يجدونه ، وقيل : تعذيبهم في الدنيا بالأموال لأخذ الزكاة منهم والنفقة في سبيل الله [ ص: 118 ] تعالى مع عدم اعتقادهم الثواب على ذلك ، وتعذيبهم فيها بالأولاد أنهم قد يقتلون في الغزو فيجزعون لذلك أشد الجزع حيث لا يعتقدون شهادتهم وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأن الاجتماع بهم قريب ولا كذلك المؤمنون فيما ذكر ، وقيل : تعذيبهم بالأموال بأن تكون غنيمة للمسلمين وبالأولاد بأن يكونوا سببا لهم إذا أظهروا الكفر وتمكنوا منهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة أن في الآية تقديما وتأخيرا أي لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة ( وتزهق أنفسهم ) أي يموتون وأصل الزهوق الخروج بصعوبة ( وهم كافرون ) في موضع الحال أي حال كونهم كافرين ، والفعل عطف على ما قبله داخل معه في حيز الإرادة ، واستدل بتعليق الموت على الكفر بإرادته تعالى على أن كفر الكافر بإرادته سبحانه، وفي ذلك رد على المعتزلة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاب الزمخشري بأن المراد إنما هو إمهالهم وإدامة النعم عليهم إلى أن يموتوا على الكفر مشتغلين بما هم فيه عن النظر في العاقبة ، والإمهال والإدامة المذكورة مما يصح أن يكون مرادا له تعالى ، واعترضه الطيبي بأن ذلك لا يجديه شيئا لأن سبب السبب سبب في الحقيقة ، وحاصله أن ما يؤدي إلى القبح ويكون سببا له حكمه حكمه في القبح وهو في حيز المنع ، وأجاب الجبائي بأن معنى الآية أن الله تعالى أراد زهوق أنفسهم في حال الكفر وهو لا يقتضي كونه سبحانه مريدا للكفر فإن المريض يريد المعالجة في وقت المرض ولا يريد المرض، والسلطان يقول لعسكره : اقتلوا البغاة حال هجومهم ولا يريد هجومهم ، ورده الإمام بأنه لا معنى لما ذكر من المثال إلا إرادة إزالة المرض وطلب إزالة هجوم البغاة، وإذا كان المراد إعدام الشيء امتنع أن يكون وجوده مرادا بخلاف إرادة زهوق نفس الكافر، فإنها ليست عبارة عن إرادة إزالة الكفر، فلما أراد الله تعالى زهوق أنفسهم حال كونهم كافرين وجب أن يكون مريدا لكفرهم ، وكيف لا يكون كذلك والزهوق حال الكفر يمتنع حصوله إلا حال حصول الكفر ، وإرادة الشيء تقتضي إرادة ما هو من ضرورياته فيلزم كونه تعالى مريدا للكفر .

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه أن الظاهر أن إرادة المعالجة شيء غير إرادة إزالة المرض وكذا إرادة القتل غير إرادة إزالة الهجوم، ولهذا يعلل إحدى الإرادتين بالأخرى فكيف تكون نفسها ، وأما أن كون إرادة ضروريات الشيء من لوازم إرادته فغير مسلم; فكم من ضروري لشيء لا يخطر بالبال عند إرادته فضلا عما ادعاه ، فالاستدلال بالآية على ما ذكر غير تام .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية