الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ملك ابنه هرمز بن أنوشروان

وكانت أمه ابنة خاقان الأكبر ، وكان هرمز بن كسرى أديبا ذا نية في الإحسان إلى الضعفاء والحمل على الأشراف ، فعادوه وأبغضوه ، وكان في نفسه مثل ذلك ، وكان عادلا بلغ من عدله أنه ركب ذات يوم إلى ساباط المدائن فاجتاز بكروم ، فاطلع أسوار من أساورته في كرم وأخذ منه عناقيد حصرم ، فلزمه حافظ الكروم وصرخ ، فبلغ من خوف الأسوار من عقوبة كسرى هرمز أن دفع إلى حافظ الكرم ، منطعة محلاة بذهب عوضا من الحصرم فتركه .

وقيل : كان مظفرا منصورا لا يمد يده إلى شيء إلا ناله ، وكان داهيا ردي النية ، قد نزع إلى أخواله الترك ، وإنه قتل العلماء وأهل البيوتات والشرف ثلاثة عشر ألف رجل وستمائة رجل ، ولم يكن له رأي إلا في تألف السفلة . وحبس كثيرا من العظماء وأسقطهم وحط مراتبهم وحرم الجنود ، ففسد عليه كثير ممن كان حوله ، وخرج عليه شابه ملك الترك في ثلاثمائة ألف مقاتل في سنة ست عشرة من ملكه ، فوصل هراة وباذغيس ، وأرسل إلى هرمز والفرس يأمرهم بإصلاح الطرق ليجوز إلى بلاد الروم .

[ ص: 426 ] ووصل ملك الروم في ثمانين ألفا إلى الضواحي قاصدا له ، ووصل ملك الخزر إلى الباب والأبواب في جمع عظيم ، فإن جمعا من العرب شنوا الغارة على السواد . فأرسل هرمز بهرام خشنش ، ويعرف بجوبين ، في اثني عشر ألفا من المقاتلة اختارهم من عسكره ، فسار مجدا وواقع شابه ملك الترك فقتله برمية رماها واستباح عسكره ، ثم وافاه برموده بن شابه فهزمه أيضا وحصره في بعض الحصون حتى استسلم ، فأرسله إلى هرمز أسيرا وغنم ما في الحصن ، فكان عظيما .

ثم خاف بهرام ومن معه هرمز ، فخلعوه وساروا نحو المدائن ، وأظهروا أن ابنه أبرويز أصلح للملك منه ، وساعدهم على ذلك بعض من كان بحضرة هرمز ، وكان غرض بهرام أن يستوحش هرمز من ابنه أبرويز ، ويستوحش ابنه منه فيختلفا ، فإن ظفر أبرويز بأبيه كان أمره على بهرام سهلا ، وإن ظفر أبوه به نجا بهرام والكلمة مختلفة ، فينال من هرمز غرضه ، وكان يحدث نفسه بالاستقلال بالملك . فلما علم أبرويز ذلك خاف أباه ، فهرب إلى أذربيجان ، فاجتمع عليه عدة من المرازبة والأصبهبذين ، ووثب العظماء بالمدائن ، وفيهم بندويه وبسطام خالا أبرويز ، فخلعوا هرمز وسملوا عينيه وتركوه تحرجا من قتله ، وبلغ أبرويز الخبر فأقبل من أذربيجان إلى دار الملك .

وكان ملك هرمز إحدى عشرة سنة وتسعة أشهر ، وقيل : اثنتي عشرة سنة ، ولم يسمل من ملوك الفرس غيره لا قبله ولا بعده .

ومن محاسن السير ما حكي عنه أنه لما فرغ من بناء داره التي تشرف على دجلة مقابل المدائن عمل وليمة عظيمة وأحضر الناس من الأطراف ، فأكلوا ، ثم قال لهم : هل [ ص: 427 ] رأيتم في هذه الدار عيبا ؟ فكلهم قال : لا عيب فيها . فقام رجل وقال : فيها ثلاثة عيوب فاحشة ، أحدها : أن الناس يجعلون دورهم في الدنيا ، وأنت جعلت الدنيا في دارك ، فقد أفرطت في توسيع صحونها وبيوتها ، فتتمكن الشمس في الصيف والسموم ، فيؤذي ذلك أهلها ، ويكثر فيها في الشتاء البرد .

والثاني : أن الملوك يتوصلون في البناء على الأنهار ; لتزول همومهم وأفكارهم بالنظر إلى المياه ، ويترطب الهواء ، وتضيء أبصارهم ، وأنت قد تركت دجلة وبنيتها في القفر .

والثالث : أنك جعلت حجرة النساء مما يلي الشمال من مساكن الرجال ، وهو أدوم هبوبا ، فلا يزال الهواء يجيء بأصوات النساء وريح طيبهن ، وهذا ما تمنعه الغيرة والحمية .

فقال هرمز : أما سعة الصحون والمجالس فخير المساكن ما سافر فيه البصر ، وشدة الحر والبرد يدفعان بالخيش والملابس والنيران .

وأما مجاورة الماء فكنت عند أبي وهو يشرف على دجلة ، فغرقت سفينة تحته فاستغاث من بها إليه ، وأبي يتأسف عليهم ويصيح بالسفن التي تحت داره ليلحقوه ، فإلى أن لحقوهم غرق جميعهم ، فجعلت في نفسي أنني لا أجاور سلطانا هو أقوى مني .

وأما عمل حجرة النساء في جهة الشمال ، فقصدنا به أن الشمال أرق هواء ، وأقل وخامة ، والنساء يلازمن البيوت ، فعمل لذلك .

وأما الغيرة فإن الرجال لا يخلون بالنساء ، وكل من يدخل هذه الدار إنما هو مملوك وعبد لقيم ، وأما أنت فما أخرج هذا منك إلا بغض لي ، فأخبرني عن سببه .

فقال الرجل : لي قرية ملك كنت أنفق حاصلها على عيالي ، فغلبني المرزبان فأخذها مني ، فقصدتك أتظلم منذ سنتين فلم أصل إليك ، فقصدت وزيرك وتظلمت إليه فلم ينصفني ، وأنا أؤدي خراج القرية حتى لا يزول اسمي عنها ، وهذا غاية الظلم أن يكون غيري يأخذ دخلها وأنا أؤدي خراجها .

[ ص: 428 ] فسأل هرمز وزيره فصدقه وقال : خفت أعلمك فيؤذيني المرزبان . فأمر هرمز أن يؤخذ من المرزبان ضعف ما أخذ ، وأن يستخدمه صاحب القرية في أي شغل شاء سنتين ، وعزل وزيره ، وقال في نفسه : إذا كان الوزير يراقب الظالم فالأحرى أن غيره يراقبه ، فأمر باتخاذ صندوق ، وكان يقفله ويختمه بخاتم ويترك على باب داره وفيه خرق يلقى فيه رقاع المتظلمين ، وكان يفتحه كل أسبوع ويكشف المظالم ، فأفكر وقال : أريد أعرف ظلم الرعية ساعة فساعة ، فاتخذ سلسلة طرفها في مجلسه في السقف ، والطرف الآخر خارج الدار في روزنة وفيها جرس ، وكان المتظلم يحرك السلسلة فيحرك الجرس فيحضره ويكشف ظلامته .

التالي السابق


الخدمات العلمية