الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وآخرون بيان لحال طائفة من المسلمين ضعيفة الهمم في أمر الدين ولم يكونوا منافقين على الصحيح . وقيل: هم طائفة من المنافقين إلا أنهم وفقوا للتوبة فتاب الله عليهم قيل: وهو مبتدأ خبره جملة خلطوا وهي حال بتقدير - قد - والخبر جملة عسى الله إلخ، والمحققون على أنه معطوف على منافقون أي ومنهم يعني ممن حولكم أو من أهل المدينة قوم آخرون اعترفوا أي أقروا عن معرفة بذنوبهم التي هي تخلفهم عن الغزو وإيثار الدعة عليه [ ص: 12 ] والرضا بسوء جوار المنافقين ولم يعتذروا بالمعاذير الكاذبة المؤكدة بالأيمان الفاجرة وكانوا على ما أخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عشرة تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فلما حضر رجوع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد وكان ممر النبي عليه الصلاة والسلام إذا رجع في المسجد عليهم فلما رآهم قال: من هؤلاء الموثقون أنفسهم؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله وقد أقسموا أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: وأنا أقسم بالله تعالى لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم فأنزل الله تعالى الآية فأرسل عليه الصلاة والسلام إليهم فأطلقهم وعذرهم

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية أخرى عنه أنهم كانوا ثلاثة وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد أنهم كانوا ثمانية وروي أنهم كانوا خمسة والروايات متفقة على أن أبا لبابة بن عبد المنذر منهم خلطوا عملا صالحا خروجا إلى الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر سيئا تخلفا عنه عليه الصلاة والسلام روي هذا عن الحسن والسدي وعن الكلبي أن الأول التوبة والثاني الإثم، وقيل: العمل الصالح يعم جميع البر والطاعة والسيئ ما كان ضده والخلط المزج وهو يستدعي مخلوطا ومخلوطا به والأول هنا هو الأول والثاني هو الثاني عند بعض والواو بمعنى الباء كما نقل عن سيبويه في قولهم: بعت الشاء شاة ودرهما وهو من باب الاستعارة لأن الباء للإلصاق والواو للجمع وهما من واد واحد ونقل شارح اللباب عن ابن الحاجب أن أصل المثال بعت الشاء شاة بدرهم أي مع درهم ثم كثر ذلك فأبدلوا من باء المصاحبة واوا فوجب أن يعرب ما بعدها بإعراب ما قبلها كما في قولهم: كل رجل وضيعته ولا يخفى ما فيه من التكلف . وذكر الزمخشري أن كل واحد من المتعاطفين مخلوط ومخلوط به لأن المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر كقولك: خلطت الماء واللبن تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه، وفيه ما ليس في قولك: خلطت الماء باللبن لأنك جعلت الماء مخلوطا واللبن مخلوطا به وإذا قلته بالواو وجعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما كأنك قلت: خلطت الماء باللبن والبن بالماء وحاصله أن المخلوط به في كل واحد من الخلطين هو المخلوط في الآخر لأن الخلط لما اقتضى مخلوطا به فهو إما الآخر أو غيره والثاني منتف بالأصل والقرينة لدلالة سياق الكلام إذا قيل: خلطت هذا وذاك على أن كلا منهما مخلوط ومخلوط به وهو أبلغ من أن يقال: خلطت أحدهما بالآخر إذ فيه خلط واحد وفي الواو خلطان

                                                                                                                                                                                                                                      واعترض بأن خلط أحدهما بالآخر يستلزم خلط الآخر به ففي كل من الواو والباء خلطان فلا فرق، وأجيب بأن الواو تفيد الخلطين صريحا بخلاف الباء فالفرق متحقق وفيه تسليم حديث الاستلزام ولا يخفى أن فيه خلطا حيث لم يفرق فيه بين الخلط والاختلاط، والحق أن اختلاط أحد الشيئين بالآخر مستلزم لاختلاط الآخر به وأما خلط أحدهما بالآخر فلا يستلزم خلط الآخر به لأن خلط الماء باللبن معناه أن يقصد الماء أولا ويجعل مخلوطا باللبن وظاهر أنه لا يستلزم أن يقصد اللبن أولا بل ينافيه، فعلى هذا معنى خلط العمل الصالح بالسيئ أنهم أتوا أولا بالصالح ثم استعقبوه سيئا ومعنى خلط السيئ بالصالح أنهم أتوا أولا بالسيئ ثم أردفوه بالصالح وإلى هذا يشير كلام السكاكي حيث جعل تقدير الآية خلطوا عملا صالحا بسيئ وآخر سيئا بصالح أي تارة أطاعوا وأحبطوا الطاعة بكبيرة وأخرى عصوا وتداركوا المعصية بالتوبة وهو ظاهر في أن العمل الصالح [ ص: 13 ] والسيئ في أحد الخلطين غيرهما في الخلط الآخر، وكلام الزمخشري ظاهر في اتحادهما وفيه ما فيه، ولذلك رجح ما ذهب إليه السكاكي لكن ما ذكره من الإحباط ميل إلى مذهب المعتزلة ، وادعى بعضهم أن ما في الآية نوع من البديع يسمى الاحتباك والأصل خلطوا عملا صالحا بآخر سيئ وخلطوا شيئا بعمل صالح وهو خلاف الظاهر

                                                                                                                                                                                                                                      واستظهر ابن المنير كون الخلط مضمنا معنى العمل والعدول عن الباء لذلك كأنه قيل: عملوا عملا صالحا وآخر سيئا وأنا أختار أن الخلط بمعنى الجمع هنا وإذا اعتبر السياق وسبب النزول يكون المراد من العمل الصالح الاعتراف بالذنوب من التخلف عن الغزو وما معه من السيئ تلك الذنوب أنفسها ويكون المقصود بالجمع المتوجه إليه أولا بالضم هو الاعتراف والتعبير عن ذلك بالخلط للإشارة إلى وقوع ذلك الاعتراف على الوجه الكامل حتى كأنه تخلل الذنوب وغير صفتها وإذا لم يعتبر سبب النزول يجوز أن يراد من العمل الصالح الاعتراف بالذنوب مطلقا ومن السيئ الذنوب كذلك وتمام الكلام بحاله ويجوز أن يراد من العمل الصالح والسيئ ما صدر من الأعمال الحسنة والسيئة مطلقا ولعل المتوجه إليه أولى على هذا أيضا ليجمع العمل الصالح إذ بضمه يفتح باب الخير ففي الخبر: أتبع السيئة بالحسنة تمحها . وقد حمل بعضهم الحسنة فيه على مطلقها، وأخرج ابن سعد عن الأسود بن قيس قال: لقي الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما يوما حبيب ابن مسلمة فقال: يا حبيب رب مسير لك في غير طاعة الله تعالى فقال: أما مسيري إلى أبيك فليس من ذلك قال: بلى ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة فلئن قام بك في دنياك فلقد قعد بك في دينك ولو كنت إذ فعلت شرا فعلت خيرا كان ذلك كما قال الله تعالى: خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ولكنك كما قال الله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون والتعبير بالخلط حينئذ يمكن أن يكون لما في ذلك من التغيير أيضا وربما يراد بالخلط مطلق الجمع من غير اعتبار أولية في البين والتعبير بالخلط لعله لمجرد الإيذان بالتخلل فإن الجمع لا يقتضيه ويشعر بهذا الحمل ما أخرجه أبو الشيخ والبيهقي عن مطرف قال: إني لأستلقي من الليل على فراشي وأتدبر القرآن فأعرض أعمالي على أعمال أهل الجنة فإذا أعمالهم شديدة كانوا قليلا من الليل ما يهجعون يبيتون لربهم سجدا وقياما أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما فلا أراني منهم فأعرض نفسي على هذه الآية ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين إلى قوله سبحانه: نكذب بيوم الدين فأرى القوم مكذبين فلا أراني فيهم فأمر بهذه الآية وآخرون اعترفوا بذنوبهم إلخ وأرجو أن أكون أنا وأنتم يا إخوتاه منهم، وكذا ما أخرجاه وغيرهما عن أبي عثمان النهدي قال: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله سبحانه: وآخرون إلخ والظاهر أنه لم يفهم منها صدور التوبة من هؤلاء الآخرين بل ثبت لهم الحكم المفهوم من قوله سبحانه: عسى الله أن يتوب عليهم مطلقا وإلا فهي وكثير من الآيات التي في هذا الباب سواء وأرجى منها عندي قوله تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا والمشهور أن الآية يفهم منها ذلك لأن التوبة من الله سبحانه بمعنى قبول التوبة وهو يقتضي صدورها عنهم فكأنه قيل: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا عسى إلخ

                                                                                                                                                                                                                                      وجعل غير واحد الاعتراف دالا على التوبة ولعل ذلك لما بينهما من اللزوم عرفا، وقال الشهاب : لأنه توبة إذا اقترن بالندم والعزم على عدم العود، وفيه أن هذا قول بالعموم والخصوص وقد ذكروا أن العام لا يدل على الخاص بإحدى الدلالات الثلاث، وكلمةعسى للأطماع وهو من أكرم الأكرمين إيجاب وأي إيجاب، وقوله تعالى: [ ص: 14 ] إن الله غفور رحيم 102 تعليل لما أفادته من وجوب القبول وليس هو الوجوب الذي يقوله المعتزلة كما لا يخفى أي أنه تعالى كثير المغفرة والرحمة يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية