الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب

لما أنهى الله تعالى القول على الذين يحاجون في توحيد الله ويرومون إخفاء نوره، صدع في هذه الآية بصفته تعالى من إنزال الكتاب الهادي للناس، و "الكتاب" هنا اسم جنس يعم جميع الكتب المنزلة، وقوله تعالى: "بالحق" يحتمل أن يكون المعنى: بأن كان ذلك حقا واجبا للمصلحة والهدى، ويحتمل أن يكون المعنى: مضمنا الحق، أي: بالحق في أحكامه وأوامره ونواهيه، و"الميزان" هنا: العدل، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والناس، وحكى الثعلبي عن مجاهد أنه قال: هو هنا الميزان الذي بأيدي الناس.

[ ص: 509 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ولا شك أنه داخل في العدل وجزء منه، وكل شيء من الأمور، فالعدل فيه إنما هو بتقدير ووزن مستقيم، فيحتاج في الأجرام إلى آلة، وهي العمود والكفتان التي بأيدي البشر، ويحتاج في المعاني إلى هيئات في النفوس وفهوم توازن بين الأشياء.

وقوله تعالى: وما يدريك لعل الساعة قريب وعيد للمشركين، أي: فانظر في أي غرر هم، وجاء لفظ "قريب" مذكرا من حيث تأنيث الساعة غير حقيقي، وإذ هي بمعنى الوقت، ثم وصف تعالى حالة الجهلة الكاذبين بها، فهم لذلك يستعجلون بها، أي: يطلبون تعجيلها ليبين العجز ممن يحققها، فالمصدق بها مشفق خائف، والمكذب مستعجل مقيم لحجته على تكذيبه بذلك المستعجل به. ثم استفتح تعالى الإخبار عن الممارين في الساعة في أنهم في ضلال قد بعد بهم، فرجوعهم عنه صعب متعذر، وفي هذا الاستفتاح مبالغة وتأكيد وتهيئة لنفس السامع.

ثم رجى تبارك وتعالى عباده بقوله سبحانه: الله لطيف بعباده ، و "لطيف" هنا بمعنى: رفيق متحف، والعباد هنا: المؤمنون ومن سبق له الخلود في الجنة، وذلك أن الأعمال بخواتمها، ولا لطف إلا ما آل إلى الرحمة، وأما الإنعام على الكافرين في الدنيا فليس بلطف بهم، بل هو إملاء واستدراج، وقال الجنيد: لطف بأوليائه حتى عرفوه، ولو لطف بالكفار لما جحدوه، وقيل: لطيف بأن نشر عنهم المناقب، وستر عليهم المثالب، وقيل: هو الذي لا يخاف إلا عدله، ولا يرجى إلا فضله.

وقوله تعالى: من كان يريد معناه: إرادة مستعد عامل عارف لا إرادة متمن لم يدن نفسه، و"الحرث" هنا عبارة عن السعي والتكسب والإعداد، ولما كان حرث الأرض أصلا من أصول المكاسب استعير لكل تكسب، ومنه قول ابن عمر رضى الله عنهما: "احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا".

وقوله تعالى: نزد له في حرثه وعد منتجز. وقوله تعالى في حرث الدنيا: نؤته منها معناه: ما شئنا ولمن شئنا، فرب ممتحن مضيق عليه حريص على حرث الدنيا مريد له [ ص: 510 ] لا يحس بغيره، نعوذ بالله من ذلك، وهذا الذي لا يعقل غير الدنيا هو الذي نفى أن يكون له نصيب في الآخرة. وقرأ سلام: "نؤته" برفع الهاء، وهي لغة لأهل الحجاز، ومثله قراءة أهل الحجاز: "فخسفنا به وبداره الأرض" برفع الهاء فيهما.

التالي السابق


الخدمات العلمية