الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( فائدة ) قال الشيخ زروق في آخر كتاب الحج من شرح الإرشاد : أحكام الحج كثيرة وفروعه غزيرة والاعتبار بها اليوم قليل لا سيما ببلاد الغرب لعدم الحاجة إليها وتحقيقها في الغالب يحتاج لطويل البحث ودقيق النظر وبعض الملابسة في الفعل فليعذر المتكلم فيه عند تقصيره ، ولقد سمعت شيخنا أبا عبد الله القوري - رحمه الله يقول حاكيا عن غيره : إن أحكام الحج على مذهب مالك لا تكاد تنضبط لزمام ، قال : وإنما قد تنضبط أفعاله وذكر أنها تسعة عشر فعلا والعمرة نصفها وعندي أن أصولها أقل من ذلك فيما يظهر وقد جمعتها في أبيات

                                                                                                                            وهي أحرم ولب ثم طف واسع وزد في عمرة حلقا وحجا إن ترد


                                                                                                                            فزد منى وعرفات جمعا     ومشعرا والجمرات السبعا


                                                                                                                            وانحر وقصر وافض ثم ارجع     للرمي أيام منى وودع


                                                                                                                            وكمل الحجة بالزيارة     متقيا من نفسك الأمارة


                                                                                                                            فالسر في التقوى والاستقامة     وفي اليقين أكبر الكرامة

                                                                                                                            ص ( وفي فوريته وتراخيه لخوف الفوات خلاف )

                                                                                                                            ش : يعني أنه اختلف في الحج هل هو واجب على الفور ، بمعنى أنه إذا وجد سببه وشروطه الآتية وجب على المكلف المبادرة إليه في أول سنة يمكنه الإتيان به فيها ويعصي بتأخيره عنها أو هو واجب على التراخي فلا تجب المبادرة في أول سنة ، وإنما تجب عند خوف الفوات إما لفساد الطريق بعد أمنها أو لخوف ذهاب ماله أو صحته أو ببلوغه الستين ، قال البرزلي وغيره : أو يخاف عجزه في بدنه فيجب حينئذ على الفور اتفاقا ، ذكر المصنف في ذلك قولين مشهورين : الأول منهما رواه ابن القصار والعراقيون عن مالك وشهره صاحب الذخيرة وصاحب العمدة وابن بزيزة ، والقول الثاني منهما شهره ابن الفاكهاني في كتاب الأقضية من شرح الرسالة قال في التوضيح : والباجي وابن راشد والتلمساني وغيرهم من المغاربة يرون أنه المذهب انتهى .

                                                                                                                            ( ( قلت ) ) يعني أنهم يرون أن مسائل المذهب تدل عليه وليس مراده أنهم لم يحكموا خلافه فقد قال ابن رشد في المقدمات اختلف في الحج هل هو على الفور أو التراخي ؟ فحكى ابن القصار عن مالك أنه عنده على الفور ومسائله تدل على خلاف ذلك ، شهر ذكر المسائل التي يؤخذ منها التراخي وحاصل نصوصهم أن المذهب اختلف على قولين مشهورين : هل وجوب الحج على الفور أو التراخي ؟ والقائل بهذا القول الثاني يرى التوسعة مغياة بما تقدم من خوف الفوات وذلك يختلف باختلاف الناس بالقوة والضعف وكثرة الأمراض وقلتها وأمن الطريق وخوفها وحده سحنون بستين سنة ، قال : ويفسق وترد شهادته إذا زاد عليها ، قال في التوضيح : قال صاحب التمهيد : ولا أعلم أحدا قال : يفسق وترد شهادته غير سحنون انتهى .

                                                                                                                            زاد ابن الحاج والتادلي عن صاحب التمهيد وهذا توقيت لا يجب إلا بتوقيف ممن يجب له التسليم .

                                                                                                                            قال : وكل من قال بالتراخي في هذه المسألة لا يجدي ذلك والحدود في الشرع لا تؤخذ إلا ممن له أن يشرع ، وقد احتج بعض الناس لسحنون بما ورد في الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين } وقل من يجاوز ذلك ، وهذا لا حجة فيه ; لأنه كلام خرج عن الأغلب أيضا ولا ينبغي أن يقطع [ ص: 472 ] بتفسيق من صحت عدالته ودينه وأمانته بمثل هذا من التأويل انتهى .

                                                                                                                            والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم وقال : إنه على شرط مسلم ، وقال صاحب الطراز : إذا قلنا : يجب على التراخي فله تأخير ما لم يخف عجزه عنه كما يقول في الكفارات ، ويلزم على هذا إذا اخترمته المنية أن لا يعصي وهو قول بعض الشافعية وإنه متى يخاف الفقر والضعف ولم يحج حتى مات أثم وعصى وغير ممتنع أن يعلق الحكم على غلبة الظن كقوله - تعالى - { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية } وإنما أراد إذا غلب على ظنه إذا أخره وهو شاب مقتدر وفي نيته فعله فمات على ذلك الحال كان ذلك عذرا طرأ على ما يجوز له فعله فلا يأثم بذلك وقال بعضهم : يأثم بكل حال وإنما جوز له التأخير بشرط السلامة ، كما جوز للمعلم ضرب الصبيان وللزوج ضرب الزوجة بشرط السلامة واختلف هؤلاء متى يعصي ؟ فقال بعضهم : بتأخيره عن أول سنة القدرة إذ التأخير عنها إنما جاز بشرط وقال بعضهم : يعصي بتأخيره عن آخر سنة لم يمكنه الحج بعدها انتهى .

                                                                                                                            ورأى بعضهم الأول ، والثاني عائدا على الشافعية كما صرح به القرافي في ذخيرته ونحو هذا ذكر ابن الحاج عن القاضي أبي بكر ونصه : قال القاضي أبو بكر : وإنما يتعين وجوبه إذا غلب على ظن المكلف فواته . ويجري هذا المجرى إباحة التعزير للإمام ثم قال : فإذا أخر الرجل حجه عن ذلك الوقت الذي يغلب على ظنه العجز عنه يعد عاصيا وإن اخترمته المنية قبل أن يغلب على ظنه الفوات فليس بعاص ومعنى هذا أن يبلغ المكلف المعترك فيغلب على ظنه أنه إذا أخره في المستأنف توفي قبل أن يحج أو تكون الطريق آمنة فيخاف فسادها أو يكون ذا مال فيخاف ذهاب ماله بدليل يظهر له على ذلك كله ، فإن عجله قبل أن يغلب على ظنه ما ذكرناه أو يبلغ المعترك فقد أدى فرضه ، وتعجيله نفل كالصلاة التي تجب بأول الوقت وجوبا موسعا فإن عجلها فقد أدى فرضه وتعجيلها نفل انتهى .

                                                                                                                            فلما ترجح عند المؤلف تجديده بخوف الفوت لا بستين سنة كما قال سحنون : جزم به فقال لخوف الفوات لكن من خوف الفوات بلوغ الستين كما نقله ابن الحاج عن القاضي أبي بكر في كلامه المتقدم حيث قال : ومعنى هذا أن يبلغ المكلف المعترك أي معترك المنايا وهو من ستين إلى سبعين ، قال الفاكهاني : وتسميها العرب دقاقة الرقاب انتهى .

                                                                                                                            فحاصله أنه إذا خيف الفوات ببلوغ الستين معترك المنايا أو بغيره تعين على الفور اتفاقا وإذا لم يخف الفوات فقولان مشهوران نقل العراقيون عن مالك أنه على الفور ورأوا أنه المذهب وشهره القرافي وابن بزيزة ومصنف الإرشاد وشهر الفاكهاني في كتاب الأقضية من الرسالة التراخي وقال في كتاب الحج منها : إنه ظاهر المذهب والباجي وابن رشد والتلمساني وغيرهم من المغاربة يرون أنه المذهب وأخذوه من مسائل فأخذه اللخمي من قول مالك : لا تخرج إليه المعتدة من الوفاة ، قال ابن عرفة : وهو ضعيف لوجوب العدة فورا إجماعا انتهى .

                                                                                                                            وأخذه اللخمي أيضا وابن رشد من رواية ابن نافع يؤخر إذن الأبوين العام والعام القابل فإن أذنا له وإلا خرج ; لأنه لو كان على الفور تعجل عليهما ; لأن التأخير معصية ، قال في التوضيح : وأجيب عن هذا بوجهين : الأول أن هذا معارض بمثله ، فقد نقل في النوادر رواية أخرى بالإعجال عليها ، الثاني أن طاعة الأبوين لما كانت واجبة على الفور باتفاق وكان الحج مختلفا في فوريته قدم المتفق على فوريته ولا يلزم من التأخير لواجب أقوى منه أن يكون الفور غير واجب انتهى .

                                                                                                                            وهذا الجواب الثاني لابن بشير ورده ابن عرفة فقال : يرد بقولها : إذا بلغ الغلام فله أن يذهب حيث شاء وسماع القرينين : سفر الابن البالغ بزوجته ولو إلى العراق وترك أبيه شيخا كبيرا عاجزا [ ص: 473 ] عن نزع الشوكة من رجله جائز فقبله ابن رشد وحمل ابن محرز على عدم الحكم به لا على عدم وجوبه بعيد جدا ، انتهى .

                                                                                                                            ومسألة المدونة التي أشار إليها هي في النكاح الأول في أوائله وسماع القرينين في رسم الصلاة من كتاب المديان ، وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذه المسألة في موانع الحج بأتم من هذا ، وأخذه ابن رشد أيضا من مسألة الزوجة قال في المقدمات : روى أشهب أنه سئل عمن حلف أن لا تخرج زوجته فأرادت الحج وهي صرورة أنه يقضى عليه بذلك ولكن ما أدري ما تعجيل الحنث ، حلف أمس ، وتقول : أخرج اليوم ، ولعله يؤخر ذلك سنة وفي كتاب ابن عبد الحكم أنه يؤخر ذلك سنة وكذلك يقضى عليه وهذا يدل على أن الحج عنده على التراخي إذ لو كان عنده على الفور لما شك في تعجيل الحنث في أول العام ، بل القياس أن يحنث في أول العام وإن كان الحج على التراخي ; لأن لها أن تعجله وإن لم يجب تعجيله انتهى .

                                                                                                                            قال في التوضيح : وأجيب بأن مالكا فهم عنها قصد الإضرار ; لقوله : حلف أمس وتخرج اليوم ، وإذا تأملت ذلك وجدت دلالته على الفور أقرب ، انتهى .

                                                                                                                            وله نحو ذلك في أواخر سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق من البيان ، واستدل للقول بالتراخي بأن فرض الحج نزل سنة ست وأخره النبي صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر وأجيب بأن الذي نزل في سنة ست قوله تعالى { وأتموا الحج والعمرة لله } وهو لا يقتضي الوجوب وإنما فرض الحج بقوله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وهذه نزلت سنة تسع قال سند : وقيل : سنة عشر ، وعلى الأول فلعل الوقت كان لا يتسع بأن نزلت في آخر العام انتهى بالمعنى فتأمله والله أعلم .

                                                                                                                            ( تنبيهات الأول ) سوى المصنف رحمه الله هنا بين القولين مع أنه قال في توضيحه : الظاهر قول من شهر الفور ، وفي كلام ابن الحاجب ميل إليه ; لأنه ضعف حجة التراخي ولأن القول بالفور نقله العراقيون عن مالك والقول بالتراخي إنما أخذ من مسائل ، وليس الأخذ منها بقوي انتهى .

                                                                                                                            وقدم في مناسكه القول بالفورية وعطف عليه الثاني بقيل فقال : والحج واجب مرة على الفور ، وقيل : على التراخي . وقال ابن عبد السلام إذا تأملت المسائل المأخوذ منها التراخي وجدتها أقرب إلى دلالتها على الفور ، انتهى .

                                                                                                                            وقال ابن الفرس في أحكام القرآن : الذي عليه رؤساء المذاهب والمنصوص عن مالك الفور انتهى .

                                                                                                                            إذا علمت ذلك فقد ظهر لك أن القول بالفور أرجح ويؤيد ذلك أن كثيرا من الفروع التي يذكرها المصنف في الاستطاعة مبنية على القول بالفور فكان ينبغي للمؤلف أن يقتصر عليه ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( الثاني ) تقدم أن الحج على الفور على من بلغ الستين وقد نقل ابن معلى والتادلي عن الباجي وابن رشد الإجماع على أنه يتعين على الفور على من بلغها أو كاد ، وفي حكاية الإجماع نظر ولم أقف عليه في كلام ابن رشد وتقدم عن سحنون أنه إذا بلغ الستين يفسق وترد شهادته وقول صاحب التوضيح عن صاحب التمهيد أنه قال : لا أعلم أحدا قال ذلك غير سحنون .

                                                                                                                            ( الثالث ) وعلى القول بالفور فلو أخره عن أول العام عصى ولا يكون قضاء خلافا لابن القصار نقل ذلك المصنف وابن عرفة وغيرهما وقال في الشامل : فلو أخره عن أول عام فقضاء ، وقيل : أداء انتهى . وهو مشكل ; لأنه يوهم أن ما صدر به هو الراجح وليس كذلك ، إنما قال به ابن القصار ، وفي كلام صاحب الطراز أنه إذا أخره عن أول سنة الإمكان لا يسمى قاضيا إجماعا ونصه في الاحتجاج للقول بالتراخي ولأنه إذا أخر الحج عن أول سنة الإمكان لا يسمى قاضيا إجماعا وإن كان قد تعين عليه في تلك السنة لوجب إذا أخره عنها أن يفوت أداؤه ويسمى قاضيا كما تقول : إذا أفسده أنه يقضيه ، وأجاب عن هذا الاستدلال بقوله : وأما اسم القضاء فلا عبرة به ; لأنه إنما يستعمل فيما يختص وجوبه بوقت بعينه وهذا لا يختص وإنما [ ص: 474 ] يجب وقت إمكانه في الجملة فهو كوجوب رد المغصوب والعارية لما لم يختص بوقت كأن فعله أول وقت وجوبه كفعله فيما بعده في تسميته أداء ، بخلاف الإحرام إذا أوقعته في وقت معين فإنه قد تعين بوقوعه فإذا أفسد فسمينا عزمته له قضاء انتهى .

                                                                                                                            وكذلك حكى الإجماع على ذلك ابن الحاج في مناسكه والله أعلم . وأما على القول بالتراخي فتقدم عن ابن الحاج وغيره أنه لو اخترمته المنية قبل أن يغلب على ظنه الفوات لم يعص وإن أخره بعد أن غلب على ظنه الفوات عصى .

                                                                                                                            ( الرابع ) قال سند : إذا وجدت شرائط الحج وجب فإن كان بينه وبين زمانه وقت واسع كان وجوبه موسعا فمتى سعى فيه سعى في واجبه وإن مات قبل فوت وقته سقط عنه ، وإن لم يخرج حتى فات الحج فقد استقر الوجوب عليه فإن مات سقط الوجوب بموته ولا يلزم ورثته ولا ماله إذا لم يوص به وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعي وابن حنبل : إن مات قبل مضي زمن الحج فلا شيء عليه وإن مات بعد فذلك في رأس ماله انتهى .

                                                                                                                            ( الخامس ) قال أشهب في مسألة الزوجة : فإن أرادت الحج وهي صرورة أنه يقضى عليه بذلك يفهم منه أنها لو لم تكن صرورة أنه لا يقضى عليه وهو كذلك ، ولو نذرته وله منعها قال في التوضيح في كتاب النذور فيها : وللزوج منع زوجته إذا نذرت المشي كما يمنعها من التطوع ; لأنها متعدية عليه انتهى . وانظر النوادر والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية