الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ويوم يحشرهم بالياء وهي قراءة حمزة على عاصم وقرأ الباقون بالنون على الالتفات و (يوم) عند الأكثرين منصوب بمضمر أي اذكر لهم أو أنذرهم يوم نجمعهم لموقف الحساب كأن لم يلبثوا أي كأنهم أناس لم يلبسوا إلا ساعة من النهار أي شيئا قليلا منه فإنها مثل في غاية القلة وتخصيصها بالنهار لأن ساعاته أعرف حالا من ساعات الليل والجملة في موقع الحال من مفعول (نحشرهم) أي نحشرهم مشبهين بمن لم يلبث في الدنيا أو في البرزخ إلا ذلك القدر اليسير وليس المراد من التشبيه ظاهره على ما قيل وقد صرح في شرح المفتاح أن التشبيه كثيرا ما يذكر ويراد به معان أخر تترتب عليه فالمراد إما التأسف على عدم انتفاعهم بأعمارهم أو تمني أن يطول مكثهم قبل ذلك حتى لا يشاهدوا ما شاهدوه من الأهوال فمآل الجملة في الآخرة نحشرهم متأسفين أو متمنين طول مكثهم قبل ذلك ويجوز أن يراد (نحشرهم) مشبهين في أحوالهم الظاهرة للناس بمن لم يلبث في الدنيا ولم يتقلب في نعيمها إلا يسيرا فإن من أقام بها دهرا وتمتع بمتاعها لا يخلو عن بعض آثار نعمة وأحكام بهجة منافية لما بهم من رثاثة الهيئة وسوء الحال وإليه ذهب بعضهم والظاهر أنه تكلف لإبقاء التشبيه على ظاهره والأول أولى كما لا يخفى وأيا ما كان ففائدة التشبيه كنار على علم والعجب ممن لم يرها فقال الظاهر أن (كأن) للظن وادعى البعض أن فائدة التقييد على تقدير أن يراد اللبث في البرزخ بيان كمال يسر الحشر بالنسبة إلى قدرته تعالى ولو بعد دهر طويل وإظهار بطلان استبعادهم وإنكارهم بقولهم: أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون ونحو ذلك أو بيان تمام الموافقة بين النشأتين في الأشكال والصور فإن قلة اللبث في البرزخ من موجبات عدم التبدل والتغير ولعل مآل الحال على هذا ويوم نحشرهم على صورهم وأشكالهم غير متغيرين وجوز أبو علي كون الجملة في موضع الصفة ليوم والعائد محذوف تقديره كأن لم يلبثوا قبله أو لمصدر محذوف والعائد كذلك أي [ ص: 128 ] حشرا كأن لم يلبثوا قبله ورد بأن مثل هذا الرابط لا يجوز حذفه والأول بأن المراد بالظرف المضاف وهو الموصوف يوم القيامة وهو يوم معين وتقدير الكلام يوم حشره أو يوم حشرنا فيكون الموصوف معرفة والجمل نكرات ولا تنعت المعرفة بالنكرة وأجيب بأن المنع من جواز حذف مثل ذلك الرابط في حيز المنع وبأن الجمل التي تضاف إليها أسماء الزمان قد يقدر حلها إلى معرفة فيكون ما أضيف إليها معرفة وقد يقدر حلها إلى نكرة فيكون ذلك نكرة ولعل أبا علي يتكلف لاعتبار حلها إلى نكرة ويكون الموصوف هنا نكرة عنده فيرتفع محذور نعت المعرفة بالنكرة وأنت تعلم أن الجواب إنما يدفع البطلان لا غير فالحق ترجيح الحالية وقوله سبحانه: يتعارفون بينهم أي يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا يحتمل أن يكون استئنافا وأن يكون بيانا للجملة التشبيهية واستدلالا عليها كما قيل وذلك أنه لو طال العهد لم يبق التعارف لأن طول العهد منس مفض إلى التناكر لكن التعارف باق فطول العهد منتف وهو معنى لم يلبثوا إلا ساعة وفيه دغدغة

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم أبو البقاء كونه حالا مقدرة ولا داعي لاعتبار كونها مقدرة لأن الظاهر عدم تأخر التعارف عن الحشر بزمان طويل ليحتاج إليه وقد صرحوا بأن التعارف بينهم يكون أول خروجهم من القبور ثم ينقطع لشدة الأهوال المذهلة واعتراء الأحوال المعضلة المغيرة للصور والأشكال المبدلة لها من حال إلى حال وعندي أن لا قطع بالانقطاع فالمواقف مختلفة والأحوال متفاوتة فقد يتعارفون بعد التناكر في موقف دون موقف وحال دون حال وفي بعض الآثار ما يؤيد ذلك وزعم بعضهم المنافاة بين ما تدل عليه هذه الآية وما يدل عليه قوله سبحانه: فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون وقوله تعالى: ولا يسأل حميم حميما من عدم التعارف لولا اعتبار الزمانين

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: لا منافاة بناء على أن المثبت تعارف تقريع وتوبيخ والمنفي تعارف تواصل وشفقة ولمانع أن يمنع دلالة ما ذكر من الآيات على نفي التعارف وقصارى ما يدل عليه نفي نفع الأنساب وسؤال بعضهم بعضا والتعارف الذي تدل عليه هذه الآية لا ينافي ذلك فقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال فيها: يعرف الرجل صاحبه إلى جنبه فلا يستطيع أن يكلمه ثم إن حمل التعارف على معرفة بعضهم بعضا هو المعروف عند المفسرين وقيل: المراد به التعريف أي يعرف بعضهم بعضا ما كانوا من الخطأ والكفر وفيه ما فيه

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز بعضهم أن يكون الظرف السابق متعلقا بيتعارفون قيل فيعطف على ما سبق ولا يظهر له وجه وقوله تعالى: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله جملة مستأنفة سيقت للشهادة منه تعالى على خسرانهم والتعجيب منه وهي خبرية لفظا إنشائية معنى وقيل: مقول لقول مقدر وقع حالا من ضمير يتعارفون أو من ضمير يحشرهم إن كانت جملة يتعارفون حالا أيضا لئلا يفصل بين الحال وذيها أجنبي والاستئناف أظهر والتعبير عنهم بالموصول مع أن المقام مقام إضمار لذمهم بما في حيز الصلة وللإشعار بعليته لما أصابهم والظاهر أن المراد بلقاء الله تعالى مطلق الحساب والجزاء وبالخسران الوضيعة أي قد وضعوا في تجارتهم ومعاملتهم واشترائهم الكفر بالإيمان وجوز أن يراد بالأول سوء اللقاء وبالثاني الهلاك والضلال أي قد ضلوا وهلكوا بتكذيبهم بذلك وما كانوا مهتدين 45 أي لطرق التجارة عارفين بأحوالها وما كانوا مهتدين إلى طريق النجاة والجملة عطف على جملة قد خسر إلخ وجوز أن تكون معطوفة على صلة الموصول على أنها كالتأكيد لها

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية