الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( اليوم أكملت لكم دينكم )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

فقال بعضهم : يعني جل ثناؤه بقوله : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، اليوم [ ص: 518 ] أكملت لكم ، أيها المؤمنون ، فرائضي عليكم وحدودي ، وأمري إياكم ونهيي ، وحلالي وحرامي ، وتنزيلي من ذلك ما أنزلت منه في كتابي ، وتبياني ما بينت لكم منه بوحيي على لسان رسولي ، والأدلة التي نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم ، فأتممت لكم جميع ذلك ، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم . قالوا : وكان ذلك في يوم عرفة ، عام حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع . وقالوا : لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من الفرائض ، ولا تحليل شيء ولا تحريمه ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة .

ذكر من قال ذلك :

11080 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "اليوم أكملت لكم دينكم" ، وهو الإسلام . قال : أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان ، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا ، وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبدا ، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا .

11081 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : "اليوم أكملت لكم دينكم" ، هذا نزل يوم عرفة ، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام . ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات . فقالت أسماء بنت عميس : حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة ، فبينما نحن نسير ، إذ تجلى له جبريل صلى الله عليه وسلم على الراحلة ، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن ، فبركت ، فأتيته فسجيت عليه برداء كان علي .

11082 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 519 ] ابن جريج قال : مكث النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الآية ، إحدى وثمانين ليلة ، قوله : " اليوم أكملت لكم دينكم " .

11083 - حدثنا سفيان قال : حدثنا ابن فضيل ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : لما نزلت : "اليوم أكملت لكم دينكم" ، وذلك يوم الحج الأكبر ، بكى عمر ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك ؟ قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذ كمل ، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص! فقال : صدقت .

11084 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أحمد بن بشير ، عن هارون بن أبي وكيع ، عن أبيه ، فذكر نحو ذلك .

وقال آخرون : معنى ذلك : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، حجكم ، فأفردتم بالبلد الحرام تحجونه ، أنتم أيها المؤمنون ، دون المشركين ، لا يخالطكم في حجكم مشرك .

ذكر من قال ذلك :

11085 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن أبي غنية ، عن أبيه ، عن الحكم : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، قال : أكمل لهم دينهم : أن حجوا ولم يحج معهم مشرك .

[ ص: 520 ]

11086 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، قال : أخلص الله لهم دينهم ، ونفى المشركين عن البيت .

11087 - حدثنا أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا قيس ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، قال : تمام الحج ، ونفي المشركين عن البيت .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال : إن الله عز وجل أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينهم ، بإفرادهم بالبلد الحرام وإجلائه عنه المشركين ، حتى حجه المسلمون دونهم لا يخالطهم المشركون .

فأما الفرائض والأحكام ، فإنه قد اختلف فيها : هل كانت أكملت ذلك اليوم ، أم لا ؟ فروي عن ابن عباس والسدي ما ذكرنا عنهما قبل .

وروي عن البراء بن عازب أن آخر آية نزلت من القرآن : ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) [ سورة النساء : 176 ] .

ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن [ ص: 521 ] قبض ، بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعا . فإذ كان ذلك كذلك وكان قوله : ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) آخرها نزولا وكان ذلك من الأحكام والفرائض كان معلوما أن معنى قوله : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، على خلاف الوجه الذي تأوله من تأوله أعني : كمال العبادات والأحكام والفرائض .

فإن قال قائل : فما جعل قول من قال : "قد نزل بعد ذلك فرض" ، أولى من قول من قال : "لم ينزل" ؟

قيل : لأن الذي قال : "لم ينزل " ، مخبر أنه لا يعلم نزول فرض ، والنفي لا يكون شهادة ، والشهادة قول من قال : "نزل" . وغير جائز دفع خبر الصادق فيما أمكن أن يكون فيه صادقا .

التالي السابق


الخدمات العلمية