الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وأما الدماء فينظر فيها فإن كان دم القمل والبراغيث وما أشبههما فإنه يعفى عن قليله ; لأنه يشق الاحتراز منه ، فلو لم يعف عنه شق وضاق ، وقد قال الله تعالى { : وما جعل عليكم في الدين من حرج } وفي كثيره وجهان ، قال أبو سعيد الإصطخري : لا يعفى عنه ; لأنه نادر لا يشق غسله ، وقال غيره يعفى عنه وهو الأصح ; لأن هذا الجنس يشق الاحتراز منه في الغالب فألحق نادره بغالبه ، وإن كان دم غيرهما من الحيوانات ففيه ثلاثة أقوال ، قال في الأم : يعفى عن قليله ، وهو القدر الذي يتعافاه الناس في العادة ; لأن الإنسان لا يخلو من بثرة وحكة يخرج منها هذا القدر فعفي عنه ، وقال في الإملاء : لا يعفى عن قليله ولا عن كثيره ; لأنه نجاسة لا يشق الاحتراز منها فلم يعف عنها كالبول ، وقال في القديم : يعفى عما دون الكف والأول أصح ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) البثرة بإسكان الثاء ويقال بفتحها لغتان ، والإسكان أشهر ، وهي خراج صغير ، ويقال بثر وجهه بكسر الثاء وضمها وفتحها ، ثلاث لغات حكاهن الجوهري وغيره ، والحكة بكسر الحاء وهي الجرب ، ذكره [ ص: 142 ] الجوهري . أما دم القمل والبراغيث والبق والقردان وغيرهما مما لا نفس له سائلة فهو نجس عندنا كما سبق في باب إزالة النجاسة ، وذكرنا خلاف أبي حنيفة وأحمد فيه ، واتفق أصحابنا على أنه يعفى عن قليله ، وفي كثيره وجهان مشهوران أحدهما قال الإصطخري : لا يعفى عنه ، وأصحهما باتفاق الأصحاب يعفى عنه قال القاضي أبو الطيب : هذا قول ابن سريج وأبي إسحاق المروزي قال صاحب البيان هذا قول عامة أصحابنا . وقال المحاملي في المجموع هذا قول ابن سريج وأبي إسحاق وسائر أصحابنا قال الشيخ أبو حامد والمحاملي في التجريد : القليل هو ما تعافاه الناس أي : عدوه عفوا وتساهلوا فيه ، والكثير ما غلب على الثوب وطيته .

                                      وذكر الخراسانيون في ضبط القليل كلاما طويلا اختصره الرافعي ولخصه فقال في قول قديم : القليل قدر دينار . وفي قديم آخر : القليل ما دون الكف وعلى الجديد وجهان .

                                      ( أحدهما ) الكثير ما يظهر للناظر من غير تأمل وإمعان طلب والقليل دونه ، ( وأصحهما ) الرجوع إلى العادة ، فما يقع التلطخ به غالبا ويعسر الاحتراز منه فقليل ، وما لا فكثير ، فعلى الأول لا يختلف ذلك باختلاف البلاد والأوقات . وعلى الثاني وجهان : ( أحدهما ) يعتبر الوسط المعتدل فلا يعتبر من البلاد والأوقات ما يندر ذلك فيه أو يتفاحش ( وأصحهما ) يختلف باختلاف الأوقات والبلاد ، ويجتهد المصلي هل هو قليل أم كثير ؟ فلو شك ففيه احتمالان لإمام الحرمين ( أرجحهما ) وبه قطع الغزالي له حكم القليل ( والثاني ) له حكم الكثير ، وسواء في كل ما ذكرناه ما كان من هذا الدم في الثوب والبدن بالاتفاق ، فلو كان قليلا فعرق وانتشر التلطخ بسببه ففيه الوجهان في الكثير ، حكاهما المتولي والبغوي . قال الشيخ أبو عاصم : يعفى عنه . وقال القاضي حسين لا يعفى عنه ولو أخذ قملة أو برغوثا وقتله في ثوبه أو بدنه أو بين أصبعيه فتلوثت به قال المتولي : إن كثر ذلك لم يعف عنه ، وإن كان قليلا فوجهان أصحهما يعفى عنه ، قال : ولو كان دم البراغيث في ثوب في كمه وصلى به أو بسطه وصلى عليه ، فإن كان كثيرا لم تصح صلاته ، وإن كان قليلا فوجهان .



                                      أما دم ما له نفس سائلة من آدمي وسائر الحيوانات ففيه الأقوال الثلاثة التي ذكرها المصنف وهي مشهورة ، أصحها بالاتفاق قوله في الأم : إنه يعفى عن [ ص: 143 ] قليله ، وهو القدر الذي يتعافاه الناس في العادة ، يعني يعدونه عفوا ، قال الأزهري يعدونه عفوا قد عفي لهم عنه ، ولم يكلفوا إزالته للمشقة في التحفظ منه . قال صاحب الشامل : قدره بعض أصحابنا بلمعة ، وهذه الأقوال في دم غيره من آدمي وحيوان آخر ، وأما دم نفسه فضربان أحدهما ما يخرج من بثرة من دم وقيح وصديد فله حكم دم البراغيث بالاتفاق ، يعفى عن قليله قطعا ، وفي كثيره الوجهان أصحهما العفو ، فلو عصر بثرة فخرج منها دم قليل عفي عنه على أصح الوجهين . وهما كالوجهين السابقين في دم القملة ونحوها إذا عصره في ثوبه أو بدنه .

                                      ( الضرب الثاني ) ما يخرج منه لا من البثرات بل من الدماميل والقروح وموضع الفصد والحجامة وغيرها . وفيه طريقان ( أحدهما ) أنه كدم البراغيث والبثرات فيعفى عن قليله . وفي كثيره الوجهان قال الرافعي هذا مقتضى كلام الأكثرين . ( والثاني ) وهو الأصح واختاره ابن كج والشيخ أبو محمد وإمام الحرمين : وهو ظاهر كلام المصنف وسائر العراقيين أنه كدم الأجنبي . فأما دم الاستحاضة وما يدوم غالبا فسبق حكمه في باب الحيض وأما ماء القروح فسبق في باب إزالة النجاسة أنه إن تغيرت رائحته فهو نجس وإلا فطريقان ( أصحهما ) أنه طاهر . ( والثاني ) على قولين . وحيث نجسناه فهو كالبثرات ، قال أصحابنا : وقيح الأجنبي وصديده وسائر الحيوان كدم ذلك الحيوان . ثم الجمهور أطلقوا الكلام في الدماء على ما سبق ، وقيد صاحب البيان الخلاف في العفو بغير دم الكلب والخنزير وما تولد من أحدهما وأشار إلى أنه لا يعفى عن شيء منه بلا خلاف قال البغوي وحكم ونيم الذباب وبول الخفاش حكم الدم لتعذر الاحتراز .



                                      ( فرع ) قال صاحب التتمة وغيره : لو كان في صلاة فأصابه شيء جرحه وخرج الدم يدفق ولم يلوث البشرة ، أو كان التلويث قليلا بأن خرج كخروج الفصد لم تبطل صلاته ، واحتجوا بحديث { جابر رضي الله عنه في الرجلين اللذين حرسا للنبي صلى الله عليه وسلم فجرح أحدهما وهو . [ ص: 144 ] يصلي فاستمر في صلاته ودماؤه تسيل ، } وهو حديث حسن سبق بيانه في باب ما ينقض الوضوء ، قالوا : ولأن المنفصل عن البشرة لا يضاف إليه وإن كان بعض الدم متصلا ببعض ، ولهذا لو صب الماء من أبريق على نجاسة واتصل طرف الماء بالنجاسة لم يحكم بنجاسة الماء الذي في الطريق . وإن كان بعضه متصلا ببعض .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في الدماء : ذكرنا مذهبنا ، وحكى الشيخ أبو حامد عن مالك أنه يعفى عما دون نصف الثوب ولا يعفى عن نصفه ، وعن أحمد يعفى عما دون شبر في شبر ، وعن أبي حنيفة أن النجاسة من الدم وغيره إن كانت قدر درهم بغلي عفي عنها ، ويعفى عن أكثر ، وعن النخعي والأوزاعي يعفى عن قدر دون درهم لا عن درهم .




                                      الخدمات العلمية