الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى :

                                                                                                                                                                                                                                      [152 ] فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون

                                                                                                                                                                                                                                      فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون قال ابن جرير : أي اذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه ، أذكركم برحمتي إياكم ومغفرتي لكم . وقد كان بعضهم يتأول ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح . وقال القاشاني : اذكروني بالإجابة والطاعة ، أذكركم بالمزيد والتوالي . وهي بمعنى ما قبله ، وقوله "واشكروا لي" قال ابن جرير : أي اشكروا لي فيما أنعمت عليكم من الإسلام والهداية للدين الذي شرعته . وقوله "ولا تكفرون" أي لا تجحدوا إحساني إليكم فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال السمرقندي : أي اشكروا نعمتي : أن أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ، ولا تجحدوا هذه النعمة ، ويقال : النعمة ، في الحقيقة هي العلم . وما سواه فهو تحول من راحة إلى راحة ، وليس بنعمة . والعلم [ ص: 311 ] لا يمل منه صاحبه . بل يطلب منه الزيادة . فأمر الله تعالى بشكر هذه النعمة ، وهي نعمة بعثه رسولا يعلمهم الكتاب والحكمة . كما قصه الحرالي . ولما كان للعرب ولع بالذكر لآبائهم ولوقائعهم ، جعل تعالى ذكره لهم عوض ما كانوا يذكرون . كما جعل كتابه عوضا من أشعارهم . وهز عزائمهم لذلك بما يسرهم به من ذكره لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يقول الله عز وجل : أنا مع عبدي حين يذكرني . فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هم خير منهم . وإن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا . وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا . فإن أتاني يمشي أتيته هرولة » . صحيح الإسناد أخرجه البخاري أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة : أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده » .

                                                                                                                                                                                                                                      والآثار في فضل الذكر متوافرة ويكفي فيه هذه الآية الكريمة .

                                                                                                                                                                                                                                      (تنبيه) قال النووي رحمه الله تعالى : اعلم أن فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوهما ، بل كل عامل لله تعالى بطاعة ، فهو ذاكر لله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 312 ] كذا قاله سعيد بن جبير رضي الله عنه ، وغيره من العلماء . وقال عطاء رحمه الله : مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام ، كيف تشتري وتبيع ؟ وتصلي وتصوم ؟ وتنكح وتطلق ؟ وأشباه هذا . وقال النووي أيضا : إن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها ، واجبة كانت أو مستحبة ، لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع ، لا عارض . وقد صنف ، في عمل اليوم والليلة ، جماعة من الأئمة كتبا نفيسة . ومن أجمعها للمتأخرين (كتاب الأذكار للنووي) ، وممن جمع زبدة ما روى فيها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (زاد المعاد) ، وقال في طليعة ذلك : كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق ذكرا لله عز وجل . بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه . وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرا منه لله . وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرا منه له . وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتسبيحه ذكرا منه له . وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرا منه له . وسكونه وصمته ذكرا منه له بقلبه . فكان ذكر الله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله . وكان ذكره الله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا ، وعلى جنبه ، وفي مشيه وركوبه ومسيره ، ونزوله وظعنه وإقامته . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الأذكار المحدثة والسماعات المبتدعة ، سماع الكف والدف ، فلم يكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وسائر الأكابر من أئمة الدين ، يجعلون هذا طريقا إلى الله تبارك وتعالى . ولا يعدونه من القرب والطاعات بل يعدونه من البدع المذمومة . حتى قال الشافعي : خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه (التغبير) يصدون به الناس عن القرآن . وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك ، ويعلمون أن للشيطان فيه نصيبا وافرا . ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم ، ومن كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله ، كان نصيب الشيطان فيه أكثر. فسماع الغناء والملاهي من أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية ، وهو [ ص: 313 ] سماع المشركين ; قال الله تعالى : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ، وغيرهما من السلف : التصدية ، التصفيق باليد . والمكاء مثل الصفير . فكان المشركون يتخذون هذا عبادة . وأما النبي صلى الله عليه وسلم فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر ونحو ذلك ، والاجتماعات الشرعية، ولم يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على استماع غناء قط . لا بكف ولا بدف ولا تواجد. وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا اجتمعوا ، أمروا واحدا منهم أن يقرأ . والباقون يستمعون . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى الأشعري : ذكرنا ربنا . فيقرأ وهم يستمعون . ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له : « مررت بك البارحة ، [ ص: 314 ] وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك » . فقال : لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا . أي لحسنته لك تحسينا . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « زينوا القرآن بأصواتكم » . وقال صلى الله عليه وسلم : « لله أشد أذنا (أي استماعا) إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به ، من صاحب القينة إلى قينته » . وعن عبد الله بن مسعود قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : « اقرأ علي » ، قلت : يا رسول الله : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : « نعم » . فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال : « حسبك الآن » . فالتفت فإذا عيناه تذرفان .

                                                                                                                                                                                                                                      ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه فقال : أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا وقال تعالى في أهل المعرفة : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول [ ص: 315 ] ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين فقال تعالى : الله نـزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وقال تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا فخلاف هذا السماع ، من الباطل الذي نهى عنه . ولذلك لم يفعله القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا فعله أكابر المشايخ ، فليفق من كان من الفريق الأدنى في سلوك فقره ، وليصحب من هو من الرفيق الأعلى إلى حلول قبره ، وليداو جراحات اجتراح بدعته ، باتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولزوم سنته . واعلم أن ذكر الله تعالى تارة يكون لعظمته ، فيتولد منه الهيبة والإجلال . وتارة يكون لقدرته فيتولد منه الخوف والحزن ، وتارة لنعمته فيتولد منه الشكر ، ولذلك قيل : ذكر النعمة شكرها ، وتارة لأفعاله الباهرة فيتولد منه العبر . فحق المؤمن أن لا ينفك أبدا عن ذكره تعالى على أحد هذه الأوجه . وقوله تعالى : واشكروا لي ولا تكفرون فيه أمر بشكره على نعمه وعدم جحدها ; (فالكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب) . وقد وعد تعالى على شكره بمزيد الخير فقال : وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد قال ابن عطية : اشكروا لي واشكروني بمعنى واحد . و "لي" أفصح وأشهر مع الشكر .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية