الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وعلى هذا استدراكات، أحدها: قوله: "إن اللفظ إذا كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية فهنا يتوقف الذهن" فيقال: استواء المفهومين إن كان مع إرادتهما فاللفظ عام شامل، وإن كان مع إرادة أحدهما فالاستواء إما أن يكون لاستواء دليلهما، بحيث لا يختص المراد بما يدل عليه، بل يكون الدليل على المراد وغير المراد سواء، وإما أن يكون الاستواء في ذهن المستمع لكونه لم يعرف رجحان دليل المراد، وهكذا توقف [ ص: 404 ] الإنسان في سائر العلوم، ومعرفة الأحكام الشرعية، إنما يكون لانتفاء الدليل المرجح للحق في نفس الأمر، فتكون الأدلة متكافئة في نفس الأمر، ويكون على كل واحد منهما دليل، وإما أن يكون التكافؤ في ذهن الناظر لكونه لم يعرف الدليل الراجح لعجزه عن معرفته، أو تفريطه وتركه النظر والبحث التام، فإن كان التساوي لهذا المعنى -وهو قصور الناظر أو تقصيره- فهذا موجود في كل كلام، وفي كل دليل، ولا يلزم من ذلك أن يكون الأمر بالنسبة إلى المفهومين على السواء، بل اللفظ دل على أحدهما دون الآخر، لكن المستمع الناظر لم يعرف دلالته، وحينئذ فعلى هذا التقدير: القرآن كله محكم، قد بين المراد به، وإنما الاشتباه في بعض الآيات لنقص فهم الناظر.

وقد أخبر الله تعالى أنه أحكم آياته، وأنها مبينة، وأنها هدى، وأنها نور. وهذا إنما يكون إذا كانت مبينة لما أراده وعناه، وأما إذا كان لا فرق فيها بين المراد وغيره لا يدل على واحد [ ص: 405 ] منهما، لم تكن مبينة ولا هادية ولا محكمة ولا نورا، وهذا كلفظ القرء الذي مثل به.

إن قيل: إنه يستعمل في الحيض وفي الطهر، ففي الآية ما يبين المراد من وجوه متعددة، والأمة متفقة على هذا، لم يقل أحد منهم بتكافؤ دليل هذا وهذا، بل منهم من رجح دليل هذا، ومنهم من رجح دليل هذا، فاتفقوا على أن الشارع نصب الدليل المبين للمراد، لكن إحدى الطائفتين عرفته، والأخرى لم تعرفه، وظنت الآخر هو المراد، وهذا لا يكون إلا لدليل صحيح، فإن الدليل الصحيح لا يدل إلا على الحق المراد، لكن يكون الدليل الصحيح خفي عنها، إما عجزا، وإما تفريطا، فظنت ما ليس بدليل دليلا.

وإن قال: بل التوقف والاستواء في نفس الأمر لانتفاء الدلالة على أحدهما في نفس الأمر، أو لتكافؤ الدليلين.

يقال: هذا ممنوع، فلم قلت: إن الأمر كذلك؟ ومعلوم أن توقف الذهن قد يكون لقصوره أو لتقصيره، وقد يكون لعدم [ ص: 406 ] بيان الدليل وعدم بيان المتكلم لمراده، فلم أحلت عدم العلم لنقص بيان القرآن دون أن تحيله على نقص فهم الأذهان؟ مع أن الله تعالى وصفه بأنه مبين ومحكم وهدى ونور، وغير ذلك من الأسماء التي تدل على أنه تعالى قد بين به المراد، ودل به العباد، وهدى به إلى الرشاد.

وأيضا فنحن قد رأينا أكثر الناس يتوقفون في فهم آية، أو يفهمون منها خلاف ما دلت عليه؛ لقصورهم أو تقصيرهم، كما يصيبهم ذلك في الأدلة العقلية وفي كلام العلماء. فهذا ضرب من الاشتباه واقع كثيرا.

وأما وجود آية اشتبه فيها المراد بغيره، ولم يبينوا فيها ذلك البتة، فهذا مما يمتنع وجوده، ولم يقدر أحد أن يقيم دليلا على وجوده، بل كل ما ادعاه إن ذكرنا أنه قد بين المراد به، اندفع السؤال، وإن عجزنا عن ذلك أمكن أن يكون من القسم المشتبه، وعدم معرفة المراد لقصورنا، لا لقصور في بيان الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قيل:


وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم

[ ص: 407 ] وكما قيل:


علي نحت القوافي من أماكنها     وما علي بأن لا تفهم البقر

[ ص: 408 ] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه». وروى الزهري عن أنس، أنه سمع [ ص: 409 ] عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية قوله تعالى: فلينظر الإنسان إلى طعامه [عبس: 24]. ثم قال: "كل هذا قد عرفناه، فما الأب"، ثم رقص عصا كانت بيده فقال: "هذا من باب التكلف، وما عليك أن لا تدري ما الأب"، ثم قال: اتبعوا ما بين لكم في هذا الكتاب، وما لا فدعوه".

فقوله: اتبعوا ما بين لكم، أي ما تبين لكم، وإلا فالله تعالى قد بينه كله، لكن قد يخفى بعض ما فيه على بعض الناس، وعمر خفي عليه الأب، كما خفي عليه الكلالة، [ ص: 410 ] [ ص: 411 ] وقد عرفه غيره من الصحابة ومن بعدهم، كما رواه ابن أبي حاتم وغيره، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "الأب ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس"، وفي رواية عكرمة عنه قال: "الأب الحشيش [ ص: 412 ] للبهائم"، وكذلك عن سعيد بن جبير وأبي مالك ومجاهد قالوا: "الأب الكلأ"، قال مجاهد: "الفاكهة ما يأكل الناس"، وعن عطاء قال: "كل شيء نبت على وجه الأرض فهو أب"، وعن الضحاك: "كل شيء أنبتت الأرض سوى الفاكهة".

وذكره غيره عن عكرمة قال: "الفاكهة ما يأكل الناس، والأب ما يأكل البهائم"، ومثله عن قتادة قال: "الفاكهة لكم، [ ص: 413 ] والأب لأنعامكم".

وهذا قول اللغويين قاطبة، قالوا: "الأب المرعى"، قال الجوهري وغيره: "الأب المرعى"

وقال الزجاج: "هو جميع الكلأ الذي تعتلفه الماشية"، وعلى قول الضحاك قد يقال إنه يدخل فيه سائر النبات غير الفاكهة، وبعضهم يقول: "ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس والأنعام"، والأول هو المعروف عند جمهور السلف وأهل اللغة.

التالي السابق


الخدمات العلمية