الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 463 ] قوله تعالى : ولا تجهر بصلاتك الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في "سننه"، عن ابن عباس في قوله : ولا تجهر بصلاتك الآية . قال : نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة متوار، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : ولا تجهر بصلاتك . أي : بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك، وابتغ بين ذلك سبيلا . يقول : بين الجهر والمخافتة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرقوا عنه وأبوا أن يستمعوا منه، فكان الرجل إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو وهو يصلي، استرق السمع دونهم فرقا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع، ذهب خشية أذاهم فلم يستمع، فإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستمع الذين يستمعون من قراءته شيئا، فأنزل الله : ولا تجهر بصلاتك فيتفرقوا [ ص: 464 ] عنك، ولا تخافت بها فلا تسمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك، لعله يرعوي إلى بعض ما يستمع فينتفع به، وابتغ بين ذلك سبيلا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة بمكة فيؤذى، فأنزل الله : ولا تجهر بصلاتك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف" عن ابن عياض /قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم [265ظ] إذا صلى عند البيت جهر بقراءته، فكان المشركون يؤذونه، فنزلت : ولا تجهر بصلاتك الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو داود في ""ناسخه""، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى يجهر بصلاته، فآذى ذلك المشركين، فأخفى صلاته هو وأصحابه؛ فلذلك قال الله : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها . وقال في "الأعراف" : واذكر ربك في نفسك الآية [الأعراف : 205] .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطبراني ، والبيهقي في "سننه"، عن ابن عباس في قوله : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها . قال : كان الرجل إذا دعا في الصلاة رفع صوته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : كان مسيلمة [ ص: 465 ] الكذاب قد تسمى الرحمن، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى فجهر بـ "بسم الله الرحمن الرحمن" . قال المشركون : يذكر إله اليمامة . فأنزل الله : ولا تجهر بصلاتك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" عن سعيد قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بـ "بسم الله الرحمن الرحيم" . وكان مسيلمة قد تسمى الرحمن، فكان المشركون إذا سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : قد ذكر مسيلمة إله اليمامة، ثم عارضوه بالمكاء والتصدية والصفير، فأنزل الله : ولا تجهر بصلاتك الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن شق ذلك على المشركين، فيؤذون النبي صلى الله عليه وسلم بالشتم، وذلك بمكة، فأنزل الله : يا محمد، ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها : لا تخفض صوتك حتى لا تسمع أذنيك، وابتغ بين ذلك سبيلا . يقول : اطلب بين الإعلان والجهر، وبين التخافت والخفض طريقا، لا جهرا شديدا ولا خفضا حتى لا تسمع أذنيك، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سقط هذا كله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في "شعب [ ص: 466 ] الإيمان"، عن محمد بن سيرين قال : نبئت أن أبا بكر كان إذا قرأ خفض، وكان عمر إذا قرأ جهر، فقيل لأبي بكر : لم تصنع هذا؟ قال : أناجي ربي وقد علم حاجتي . وقيل لعمر : لم تصنع هذا؟ قال : أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان . فلما نزلت : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها . قيل لأبي بكر : ارفع شيئا . وقيل لعمر : اخفض شيئا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال : كان أبو بكر إذا صلى من الليل خفض صوته جدا، وكان عمر إذا صلى رفع صوته جدا، فقال عمر : يا أبا بكر، لو رفعت من صوتك شيئا . وقال أبو بكر : يا عمر، لو خفضت من صوتك شيئا . فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بأمرهما، فأنزل الله : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها الآية . فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهما فقال : "يا أبا بكر، ارفع من صوتك شيئا" . وقال لعمر : "اخفض من صوتك شيئا" .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة في "المصنف"، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود في "الناسخ"، والبزار ، والنحاس ، وابن نصر، وابن مردويه ، والبيهقي في "سننه"، عن عائشة قالت : إنما نزلت هذه الآية : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها في الدعاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، والحاكم ، عن عائشة قالت : نزلت هذه الآية في [ ص: 467 ] التشهد : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن عائشة في قوله : ولا تجهر بصلاتك . قالت : نزلت في المسألة والدعاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج محمد بن نصر، وابن مردويه ، عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى عند البيت رفع صوته بالدعاء وآذاه المشركون، فنزل : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور ، والبخاري في "تاريخه"، وابن المنذر ، وابن مردويه ، عن دراج أبي السمح، أن شيخا من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها . إنما نزلت في الدعاء، لا ترفع صوتك في دعائك فتذكر ذنوبك فتسمع منك فتعير بها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن منيع، وابن جرير ، ومحمد بن نصر ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، عن ابن عباس في قوله : ولا تجهر بصلاتك . قال : نزلت في الدعاء، كانوا يجهرون بالدعاء : اللهم ارحمني . فلما نزلت أمروا ألا يخافتوا ولا يجهروا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 468 ] وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف"، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن عبد الله بن شداد قال : كان أعراب من بني تميم إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : اللهم ارزقنا إبلا وولدا . فنزلت : ولا تجهر بصلاتك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد في قوله : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها قال : ذلك في الدعاء والمسألة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، عن ابن عباس في قوله : ولا تجهر بصلاتك . ولا تصل مراءاة الناس، ولا تخافت بها . قال : لا تدعها مخافة الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن عساكر عن الحسن في قوله : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها . قال : لا تصلها رياء، ولا تدعها حياء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : ولا تجهر بصلاتك . قال : لا تجعلها كلها جهرا، ولا تخافت بها . قال : لا تجعلها كلها سرا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي داود في "المصاحف" عن أبي رزين قال : في قراءة عبد الله : (ولا تخافت بصوتك ولا تعال به) .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 469 ] وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، عن ابن مسعود قال : لم يخافت من أسمع أذنيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن سعد ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال : العلم خير من العمل، وخير الأمور أوساطها، والحسنة بين تلك السيئتين؛ وذلك لأن الله يقول : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، عن أبي قلابة قال : خير أموركم أوساطها .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية