الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله عز ذكره ( فمن تصدق به فهو كفارة له )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعني به : " فمن تصدق به فهو كفارة له " .

فقال بعضهم : عنى بذلك المجروح وولي القتيل .

ذكر من قال ذلك :

12073 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهيثم بن الأسود ، عن عبد الله بن عمرو : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، قال : يهدم عنه يعني المجروح مثل ذلك من ذنوبه .

12074 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهيثم بن الأسود ، عن عبد الله بن عمرو ، بنحوه .

12075 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهيثم بن الأسود أبي العريان قال : رأيت معاوية قاعدا على السرير ، وإلى جنبه رجل أحمر كأنه مولى وهو [ ص: 363 ] عبد الله بن عمرو فقال في هذه الآية : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، قال : يهدم عنه من ذنوبه مثل ما تصدق به .

12076 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، قال : للمجروح .

12077 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال ، حدثنا شعبة ، عن عمارة بن أبي حفصة ، عن أبي عقبة ، عن جابر بن زيد : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، قال : للمجروح .

12078 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثني حرمي بن عمارة قال ، حدثنا [ ص: 364 ] شعبة قال ، أخبرني عمارة ، عن رجل ، قال حرمي : نسيت اسمه ، عن جابر بن زيد ، بمثله .

12079 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، قال : للمجروح .

12080 - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السفر قال : دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار فاندقت ثنيته ، فرفعه الأنصاري إلى معاوية . فلما ألح عليه الرجل قال معاوية : شأنك وصاحبك ! قال : وأبو الدرداء عند معاوية ، فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه ، إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة . فقال له الأنصاري : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال : سمعته أذناي ووعاه قلبي ! فخلى سبيل القرشي ، فقال معاوية : مروا له بمال .

12081 - حدثنا محمود بن خداش قال ، حدثنا هشيم بن بشير قال ، [ ص: 365 ] أخبرنا مغيرة ، عن الشعبي قال ، قال ابن الصامت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من جرح في جسده جراحة فتصدق بها ، كفر عنه ذنوبه بمثل ما تصدق به .

12082 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الحسن في قوله : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، قال : كفارة للمجروح .

12083 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن زكريا قال : سمعت عامرا يقول : كفارة لمن تصدق به .

12084 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، يقول : لولي القتيل الذي عفا .

12085 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني شبيب بن سعيد ، عن شعبة بن الحجاج ، عن قيس بن مسلم ، عن الهيثم أبي العريان قال : كنت بالشأم ، وإذا برجل مع معاوية قاعد على السرير كأنه مولى ، قال : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، قال : فمن تصدق به هدم الله عنه مثله من ذنوبه فإذا هو عبد الله بن عمرو . [ ص: 366 ]

وقال آخرون : عنى بذلك الجارح . وقالوا : معنى الآية : فمن تصدق بما وجب له من قود أو قصاص على من وجب ذلك له عليه ، فعفا عنه ، فعفوه ذلك عن الجاني كفارة لذنب الجاني المجرم ، كما القصاص منه كفارة له . قالوا : فأما أجر العافي المتصدق ، فعلى الله .

ذكر من قال ذلك :

12086 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، قال : كفارة للجارح ، وأجر الذي أصيب على الله .

12087 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا يونس ، عن أبي إسحاق ، قال سمعت مجاهدا يقول لأبي إسحاق : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، يا أبا إسحاق ، [ لمن ] ؟ قال أبو إسحاق : للمتصدق فقال مجاهد : للمذنب الجارح .

12088 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، قال مغيرة ، قال مجاهد : للجارح .

12089 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، مثله .

12090 - حدثنا هناد وسفيان بن وكيع قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ومجاهد : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، قالا : للذي تصدق عليه ، [ ص: 367 ] وأجر الذي أصيب على الله ، قال هناد في حديثه ، قالا : كفارة للذي تصدق به عليه .

12091 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبد بن حميد ، عن منصور ، عن مجاهد ، بنحوه .

12092 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بشر ، عن زكريا ، عن عامر قال : كفارة لمن تصدق به عليه .

12093 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وإبراهيم قالا : كفارة للجارح ، وأجر الذي أصيب على الله .

12094 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان قال : سمعت زيد بن أسلم يقول : إن عفا عنه ، أو اقتص منه ، أو قبل منه الدية ، فهو كفارة له .

12095 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : كفارة للجارح ، وأجر للعافي ، لقوله : ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) [ سورة الشورى : 40 ] .

12096 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، قال : كفارة للمتصدق عليه .

12097 - حدثني المثنى قال ، حدثنا معلى بن أسد قال ، حدثنا خالد قال ، حدثنا حصين ، عن ابن عباس : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، قال : هي كفارة للجارح .

12098 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن [ ص: 368 ] عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، قال : فالكفارة للجارح ، وأجر المتصدق على الله .

12099 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد أنه كان يقول : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، يقول : للقاتل ، وأجر للعافي .

12100 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عمران بن ظبيان ، عن عدي بن ثابت قال ، هتم رجل على عهد معاوية ، فأعطي دية فلم يقبل ، ثم أعطي ديتين فلم يقبل ، ثم أعطي ثلاثا فلم يقبل . فحدث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فمن تصدق بدم فما دونه كان كفارة له من يوم تصدق إلى يوم ولد " . قال : فتصدق الرجل .

12101 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له " ، يقول : من جرح فتصدق بالذي جرح به على الجارح ، [ ص: 369 ] فليس على الجارح سبيل ولا قود ولا عقل ، ولا حرج عليه ، من أجل أنه تصدق عليه الذي جرح ، فكان كفارة له من ظلمه الذي ظلم .

قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : عني به : " فمن تصدق به فهو كفارة له " المجروح ، فلأن تكون " الهاء " في قوله : " له " عائدة على " من " أولى من أن تكون من ذكر من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح وأحرى ، إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدق عليه في سائر الصدقات غير هذه ، فالواجب أن يكون سبيل هذه سبيل غيرها من الصدقات .

فإن ظن ظان أن القصاص إذ كان يكفر ذنب صاحبه المقتص منه الذي أتاه في قتل من قتله ظلما ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم إذ أخذ البيعة على أصحابه " أن لا تقتلوا ولا تزنوا ولا تسرقوا " ثم قال : "فمن فعل من ذلك شيئا فأقيم عليه حده فهو كفارته " فالواجب أن يكون عفو العافي المجني عليه ، أو ولي المقتول عنه نظيره ، في أن ذلك له كفارة . فإن ذلك لو وجب أن يكون كذلك ، لوجب أن يكون عفو المقذوف عن قاذفه بالزنا وتركه أخذه بالواجب له من الحد وقد قذفه قاذفه وهو عفيف مسلم محصن كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه ، ومعصيته التي أتاها . وذلك ما لا نعلم قائلا من أهل العلم يقوله .

فإذ كان غير جائز أن يكون ترك المقذوف الذي وصفنا أمره أخذ قاذفه [ ص: 370 ] بالواجب له من الحد كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه ، كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح أخذ الجارح بحقه من القصاص ، كفارة للجارح من ذنبه الذي ركبه .

فإن قال قائل : أو ليس للمجروح عندك أخذ جارحه بدية جرحه مكان القصاص؟

قيل له : بلى!

فإن قال : أفرأيت لو اختار الدية ثم عفا عنها ، أكانت له قبله في الآخرة تبعة ؟

قيل له : هذا كلام عندنا محال . وذلك أنه لا يكون عندنا مختارا لدية إلا وهو لها آخذ . فأما العفو فإنما هو عفو عن الدم ، وقد دللنا على صحة ذلك في موضع غير هذا ، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع إلا أن يكون مرادا بذلك هبتها لمن أخذت منه بعد الأخذ . مع أن عفوه عن الدية بعد اختياره إياها لو صح ، لم يكن في صحة ذلك ما يوجب أن يكون المعفو له عنها بريئا من عقوبة ذنبه عند الله ; لأن الله تعالى ذكره أوعد قاتل المؤمن بما أوعده به إن لم يتب من ذنبه ، والدية مأخوذة منه ، أحب أم سخط . والتوبة من التائب إنما تكون توبة إذا اختارها وأرادها وآثرها على الإصرار .

فإن ظن ظان أن ذلك وإن كان كذلك ، فقد يجب أن يكون له كفارة ، كما كان القصاص له كفارة ، فإنا إنما جعلنا القصاص له كفارة مع ندمه وبذله نفسه لأخذ الحق منها تنصلا من ذنبه ، بخبر النبي صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 371 ] فأما الدية إذا اختارها المجروح ثم عفا عنها ، فلم يقض عليه بحد ذنبه ، فيكون ممن دخل في حكم النبي صلى الله عليه وسلم وقوله : " فمن أقيم عليه الحد فهو كفارته " . ثم مما يؤكد صحة ما قلنا في ذلك ، الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : "فمن تصدق بدم " ، وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد ذكرناها قبل .

وقد يجوز أن يكون القائلون إنه عنى بذلك الجارح ، أرادوا المعنى الذي ذكر عن عروة بن الزبير الذي : -

12102 - حدثني به الحارث بن محمد قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قال : إذا أصاب رجل رجلا ولا يعلم المصاب من أصابه ، فاعترف له المصيب ، فهو كفارة للمصيب . قال : وكان مجاهد يقول عند هذا : أصاب عروة بن الزبير عين إنسان عند الركن فيما يستلمون ، فقال له : يا هذا ، أنا عروة بن الزبير ، فإن كان بعينك بأس فأنا بها !

وإذا كان الأمر من الجارح على نحو ما كان من عروة من خطأ فعل على غير عمد ، ثم اعترف للذي أصابه بما أصابه ، فعفا له المصاب بذلك عن حقه قبله ، فلا تبعة له حينئذ قبل المصيب في الدنيا ولا في الآخرة . لأن الذي كان وجب له قبله مال لا قصاص ، وقد أبرأه منه : فإبراؤه منه ، كفارة للمبرأ من حقه [ ص: 372 ] الذي كان له أخذه به ، فلا طلبة له بسبب ذلك قبله في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا عقوبة تلزمه بها بما كان منه إلى من أصابه ، لأنه لم يتعمد إصابته بما أصابه به ، فيكون بفعله آثما يستحق به العقوبة من ربه ، لأن الله عز وجل قد وضع الجناح عن عباده فيما أخطأوا فيه ولم يتعمدوه من أفعالهم ، فقال في كتابه : ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ) . [ سورة الأحزاب : 5 ]

و"التصدق " في هذا الموضع بالدم العفو عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية