الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت: ففي هذا الكلام قد جعل العلم ثلاثة أنواع: أحدها: هو الذي يعرف بالعقل، والثاني: المعرفة التي لا تحصل إلا بالسمع. والثالث: ما لا سبيل إلى معرفته لا بعقل ولا بسمع.

فالأول: المعرفة المطلقة المجملة بأن هذه المحدثات التي يعجز عنها الخلق لا بد لها من صانع.

ولكن هذه المعرفة لا تفيد معرفة عينه ولا أسمائه، فإن المحدثات إنما تدل على فاعل ما مطلق من حيث الجملة. وكذلك سائر ما يذكر من البراهين القياسية، فإنما تدل على أمر مطلق كلي، إذ كان البرهان المنطقي العقلي لا بد فيه من قضية كلية، والنتيجة موقوفة على جميع المقدمات، فإذا كان المدلول عليه لم تعرف عينه قبل الاستدلال، لم يدل هذا الدليل إلى على أمر مطلق كلي.

وإيضاح ذلك أنه إذا استدل بحدوث المحدثات على أن له محدثا، وبإمكان الممكنات على أن هناك واجبا، فإنه لم يعرف إلا وجود محدث واجب بنفسه، وهذا معنى كلي مطلق لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه، فلا يكون في ذلك معرفة عينه، ولو وصف هذا بصفات مطلقة لم يخرجه ذلك عن أن يكون مطلقا كليا.

ثم إنه ضل من ضل من الجهمية نفاة الصفات، من المتفلسفة والمعتزلة والمتصوفة، حيث أثبتوا وجودا واجبا قديما، ثم وصفوه بصفات سلبية توجب امتناع تعينه، وأنه لا يكون إلا مطلقا، وقد علم أن ما لا يكون مطلقا كليا، لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان، فيكون ما أثبتوه لا وجود له في الخارج.

ومن المعلوم الفرق بين كون الدليل لم يدل على عينه وبين نفي تعينه، [ ص: 9 ] فإن من سلك النظر الصحيح علم أنه موجود معين متميز، وإن كان دليله لم يدله على عينه، بخلاف من نفى تعينه وجعله مطلقا كليا، أو قال ما يستلزم ذلك، فإن هذا معطل له في الحقيقة.

ومثال هذا من علم بالدليل وجود نبي مرسل أرسله الله إلى خلقه ولم يعلم عينه، فهذا قد علمه علما مطلقا.

وأما من قال: إن هذا النبي إنما يوجد مطلقا لا معينا، فهذا قد نفى وجوده في الخارج. فإذا تبين أن القياس العقلي البرهاني لا يفيد إلا معرفة مطلقة كلية، فمعلوم أن أسماءه لا تعرف إلا بالسمع، فبالسمع عرفت أسماء الله وصفاته التي يوصف بها من الكلام.

ولولا السمع لما سمي ولا ذكر ولا حمد ولا مدح ولا نعت ولا وصف. فإن كان هذا هو الذي أرادوه بمعرفة عينه ومن هو، فلا ريب أنه لا يحصل إلا بالسمع، وإن أراد بذلك معرفة أخرى، مثل المعرفة بسائر نعوته التي أخبرت بها الرسل، فهذا أيضا يعلم بالسمع، ومنها ما لا يعلم بمجرد القياس العقلي، ومنها ما قد تنازع الناس هل يعلم بالعقل أم لا؟

وأما معرفة عين المسمى الموصوف الذي علم وجوده، فهذا في المخلوقات يعرف بالإحساس ظاهرا أو باطنا: إما بالإحساس بعينه، أو بالإحساس بخصائصه. فمن علم اسم شخص ونعوته، أو اسم أرض وحدودها، فإنه يعرف عينها بالرؤية: إما بمخبر يخبره أن هذا المعنى هو الموصوف المسمى، وإما بأن يرى اختصاص ذلك المعين بتلك الأسماء والصفات.

قال تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم [سورة البقرة: 146]. فمن عرف نعوت النبي صلى الله عليه وسلم التي نعت [ ص: 10 ] بها في الكتب المتقدمة، ثم رآه ورأى خصائصه، علم أن هذا هو ذاك؛ لعدم الاشتراك في تلك الصفات.

وهذه المعرفة قد تكون بمشاهدة عينه كالذين شاهدوه، وقد لا تكون بمشاهدة عينه، بل بطرق أخرى يعلم بها أنه هو، كما يعلم أن القرآن تلقي عنه، وأنه هاجر من مكة إلى المدينة ومات بها، وأنه هو المذكور في الأذان، وهو الذي يسميه المسلمون محمدا رسول الله، وهو صاحب هذه الشريعة التي عليها المسلمون. فهذه الأمور تعرف بها عينه من غير مشاهدة.

وكذلك قد تعرف عين خلفائه وأصحابه وغيرهم من الناس، وتعرف أقوالهم وأفعالهم وغير ذلك من أحوالهم، معرفة معينة لا اشتراك فيها مع عدم المعاينة.

لكن قد شوهد آحاد الأناسي وعلم أن هؤلاء من هذا النوع، ولكن لم يشهد ما يشبه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه من كل وجه، وإنما شوهد ما يشبههم من بعض الوجوه.

فهذا القدر المسمى يعلم بمشاهدة نظيره. وأما القدر الفارق، فلا بد أن يشارك غيره في وصف آخر، فيعلم ما بينهما من القدر المشترك أيضا.

فالأمور الغائبة لا يمكن معرفتها ولا التعريف بها إلا بما بينها وبين الأمور الشاهدة من المشابهة. لكن إذا عرف أنه لا شركة في ذلك، علم أنه واحد معين من علم بعض صفاته. وإن جوز فيه الشركة لم يعلم عين ذاك. [ ص: 11 ]

ففي الجملة معرفة عين من علم بعض صفاته قد يحصل بالسماع، وقد يحصل بالعيان، وقد يحصل بالاستدلال. والعلم بالموصوف قد يعلم بطرق متعددة، فمن علم نعت الملك ثم رآه فقد يعلم عينه لما استقر عنده من معرفة صفاته. وقد يعلم ذلك بمن يخبره أن ذلك المسمى الموصوف هو هذا المعين.

ولهذا إذا كان في كتاب الوقف ونحوه حدود عقار وصفاته، فقد تعلم الحدود بالمعاينة والاستدلال بأن لا يدل ما يطابق تلك النعوت إلا هي. وقد يعلم بالخبر والشهادة ما يشهد الشهود بأن الحد المسمى الموصوف هو هذا المعين.

وإذا شهد الشهود على مسمى منسوب، وكتب بذلك حاكم إلى حاكم آخر، أو شهد شهود فرع على شهود أصل، فإنه يعلم عين المسمى المنسوب، كمن شهد بنسبة ولا يوجد له شريك، فإن وجد له شريك لم تعلم عينه بالشهادة باسمه ونسبه، وصار ذلك كالحلية والنعت المشترك، وهل يشهد بالتعيين بمجرد الحلية عند الحاجة؟ فيه نزاع بين الفقهاء.

وكما أن معرفة عين الموصوف تحصل بطرق، فنفس العلم الأول بصفته المختصة يحصل بطرق. والعلم بالمعينة قد يكون بالمشاهدة الظاهرة، وقد يكون بالمشاهدة الباطنة، وقد لا يكون إلا لمجرد الآثار.

التالي السابق


الخدمات العلمية