الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                            صفحة جزء
                                                                                            37 - 117 - ( باب ما ( جاء ) في سلمان الفارسي - رضي الله عنه - )

                                                                                            15833 عن سلمان الفارسي قال : كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من قرية منها يقال لها : جي ، وكان أبي دهقان قريته ، وكنت أحب خلق الله إليه ، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجارية ، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها لا أتركها تخبو ساعة . قال : فكانت لأبي ضيعة عظيمة قال : فشغل في بنيان له يوما فقال لي : يا بني ، ( إني ) قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب فاطلعها ، وأمرني فيها ببعض ما يريد ( ثم قال لي : لا تحتبس علي ، فإنك إن احتبست علي كنت أحم علي من ضيعتي وشغلتني عن كل شيء من أمري ) فخرجت أريد ضيعته ، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى ، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون ، وكنت لا أدري ما أمر الناس بحبس أبي إياي في بيته ، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ماذا يصنعون ، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم ، وقلت : هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه ، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس ، وتركت ضيعة أبي ولم آتها ، فقلت لهم : أين أصل هذا الدين ؟ قالوا : بالشام . قال : ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في [ ص: 333 ] طلبي وقد شغلته عن عمله كله قال : فلما جئته قال : أي بني أين كنت ؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت ؟ ! قلت: يا أبتي مررت بناس يصلون في كنيسة لهم فأعجني ما رأيت من دينهم ، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس . قال : أي بني ليس في ذلك الدين خير ، دينك ودين آبائك خير منه قال : قلت : كلا والله إنه لخير من ديننا قال : فخافني ، فجعل في رجلي قيدا ، ثم حبسني في بيته .

                                                                                            قال : وبعثت إلى النصارى ، وقلت لهم : إذا قدم عليهم من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم . فأقبل عليهم ركب من الشام تجار من النصارى ،فأخبروني ،قال : فقلت : إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم . قال : فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم ( أخبروني بهم ، فـ ) ألقيت الحديد من رجلي ، ثم خرجت معهم حتى ( قدمت ) الشام ، فلما قدمتها قلت : من أفضل أهل هذا الدين ؟ قالوا : الأسقف في الكنيسة . قال : فجئته ، فقلت : إني قد رغبت في هذا الدين ، وأحببت أن أكون معك في كنيستك ، أخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك . قال : ادخل ، فدخلت معه . قال : فكان رجل سوء ; يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها ، فإذا جمعوا منها شيئا اكتنزه لنفسه ولم يعط المساكين ، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق . قال : وأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع ، ثم مات فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه ، فقلت لهم : إن هذا كان رجل سوء ; يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها ، فإذا جمعتم له منها أشياء جئتموه بها اكتنزها لنفسه ، ولم يعط المساكين منها شيئا قالوا : وما علمك بذلك ؟ قلت : أنا أدلكم على كنزه قالوا : فدلنا عليه قال : فأريتهم موضعه ، فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا ، فلما رأوها قالوا : والله لا ندفنه أبدا قال : فصلبوه ، ثم رجموه بالحجارة ، ثم جاءوا برجل آخر فجعلوه بمكانه .

                                                                                            قال : يقول سلمان : قلما رأيت رجلا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه ، ولا أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ، ولا أدأب ليلا ونهارا منه . قال : فأحببته حبا لم أحبه من قبله ، فأقمت معه زمانا ، ثم حضرته الوفاة ، فقلت له : يا فلان ، إني كنت معك ، وأحببتك حبا لم أحبه أحدا قبلك ، وقد حضرك ما ترى من أمر الله ، فإلى من توصي بي ؟ وما تأمرني ؟ قال : أي بني ، والله ما أعلم أحدا اليوم على ما كنت عليه ، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجل بالموصل ، وهو فلان ، فهو على ما كنت عليه فالحق به .

                                                                                            قال : فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل ، فقلت له : يا فلان ، إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك ، وأخبرني أنك على مثل أمره ، قال : أقم عندي فأقمت عنده فوجدته خير رجل ، ( على أمر صاحبه ) فلم يلبث أن مات ، فلما حضرته الوفاة قلت له : يا فلان ، إن فلانا أوصاني إليك ، وقد أمرني باللحوق بك ، وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصي بي ؟ وما تأمرني ؟ [ ص: 334 ] قال : أي بني ، والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين ( وهو فلان ، فالحق به ، قال : فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين ) . فجئته فأخبرته خبري ، وما أمرني به صاحبي قال : أقم عندي ، ( فأقمت عنده ) فوجدته على أمر صاحبيه ، فأقمت مع خير رجل ، فوالله ما لبث أن نزل به الموت ، فلما حضر قلت : يا فلان ، إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إليك ، فإلى من توصي بي ؟ وما تأمرني ؟ قال : أي بني ، والله ما أعلم أحدا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية ; فإنه على مثل ما نحن عليه ، فإن أحببت فأته ; فإنه على مثل أمرنا .

                                                                                            قال : فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية ، فأخبرته خبري ، فقال : أقم عندي ، فأقمت مع رجل على أمر أصحابه وهديهم ، واكتسبت حتى صارت لي بقيرات وغنيمة . قال : ثم نزل به أمر الله - عز وجل - . قال : فلما حضر قلت له : يا فلان ، إني كنت مع فلان وإنه أوصى بي إلى فلان ، وأوصى إلى فلان وأوصى إلى فلان إلى فلان وأوصاني فلان إلى فلان إليك ، فإلى من توصي بي ؟ وما تأمرني ؟ قال : فإنني والله ما أعلم أحدا على ما كنا عليه من الناس آمرك أن تأتيه ، ولكن قد أظلك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب ، مهاجره إلى أرض بين حرتين ، بينهما نخل ، به علامات لا تخفى : يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة ، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل .

                                                                                            قال : ثم مات وغيب ، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ، ثم مر بي نفر من كل تجار ، فقلت لهم : تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقيراتي هذه وغنيمتي هذا ؟ فقالوا : نعم ، فأعطيتموها فحملوني حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل من يهود ، وكنت عنده ، ورأيت النخل ، ورجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق في نفسي ، فبينا أنا عنده قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة ، فابتاعني منه فحملني إلى المدينة ، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي ، فأقمت بها ، وبعث الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - فأقام بمكة ، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق ، ثم هاجر إلى المدينة ، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل ، وسيدي جالس إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه ، فقال : فلان ، قاتل الله بني قيلة والله إنهم الآن مجتمعون على رجل قدم من مكة اليوم يزعم أنه نبي . قال : فلما سمعتها أخذتني [ ص: 335 ] العرواء حتى ظننت سأسقط على سيدي . قال : ونزلت عن النخلة ، وجعلت أقول لابن عمه ( ذلك ) : ماذا تقول ؟ ماذا تقول ؟ فغضب سيدي ، فلكمني لكمة شديدة ، ثم قال : ما لك ولهذا ؟ أقبل على عملك . قال : قلت : لا شيء إنما أردت أن أستثنيه عما قال . وكان عندي شيء قد جمعته ، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بقباء ، فدخلت عليه ، فقلت له : إنه بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذو حاجة ، وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم ، فقربته إليه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : " كلوا " . وأمسك يده فلم يأكل قال : فقلت في نفسي : هذه واحدة . ثم انصرفت ، عنه فجمعت شيئا ، وتحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، ثم جئته ، فقلت : إني رأيتك لا تأكل الصدقة ، وهذه هدية أكرمتك بها ، قال : فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها ، وأمر أصحابه فأكلوا معه . قال : فقلت في نفسي : هذه اثنتان . قال : ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ببقيع الغرقد وقد تبع جنازة من أصحابه ، عليه شملتان له ، وهو جالس في أصحابه ، فسلمت عليه ، ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ، فلما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استدبرته عرف أني أستثبت في شيء قد وصف لي . قال : فألقى رداءه عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم وعرفته ، فانكببت عليه أقبله وأبكي ، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ( تحول ) " . فتحولت ، فقصصت عليه حديثي - كما حدثتك يا ابن عباس - فأعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسمع ذلك أصحابه .

                                                                                            وشغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدر وأحد .

                                                                                            قال : ثم قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كاتب يا سلمان " . فكاتبت صاحبي على ثلاث مائة نخلة أحييها له بالعفير ، وبأربعين أوقية . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : " أعينوا أخاكم " . فأعانوني بالنخل ، الرجل بثلاثين ودية ، والرجل بعشرين ودية ، والرجل بخمس عشرة ودية ، والرجل بعشر ، يعين الرجل بقدر ما عنده حتى إذا اجتمعت إلي ثلاثمائة ودية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اذهب يا سلمان فعفر لها ، فإذا فرغت فائتني فأكون أنا أضعها بيدي " . قال : فعفرت لها وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معي إليها ، فجعلنا نقرب إليه الودي ويضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ، فوالذي [ ص: 336 ] نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة ، فأديت النخل وبقي علي المال ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل بيضة دجاجة من ذهب من بعض المعادن ، فقال : " ما فعل الفارسي المكاتب ؟ " . قال : فدعيت له ، فقال : " خذ هذه فأد بها ما عليك يا سلمان " . قال : قلت : وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي ؟ قال : " خذها ; فإن الله سيؤدي بها عنك " . قال : فأخذتها ، فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية ، فأوفيتهم حقهم وعتقت ، فشهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق ، ثم لم يفتني معه مشهد .

                                                                                            التالي السابق


                                                                                            الخدمات العلمية