الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الثالث

                                                                                                                                                                                                                              في حلمه وعفوه مع القدرة له صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                                              قال الله سبحانه وتعالى : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [الأعراف : 199] وقال عز وجل : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك [آل عمران : 159] .

                                                                                                                                                                                                                              روى أبو نعيم عن قتادة رحمه الله تعالى قال : طهر الله تعالى رسوله من الفظاظة والغلظة ، وجعله قريبا ، رؤوفا بالمؤمنين رحيما .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن مردويه عن جابر وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الشعبي قال : لما أنزل الله عز وجل : خذ العفو وأمر بالعرف الآية ، قال : ما تأويل هذه الآية يا جبريل ؟ قال : لا أدري حتى أسأل العالم ، فصعد ، ثم نزل ، فقال : يا محمد! إن الله تبارك وتعالى أمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما في الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                              الأولى : قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بالعفو عن أخلاق الناس .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما قفل معه أدركتهم القائلة في واد كثير العضاة فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة فعلق سيفه ، ونمنا نومة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا ، وإذا عنده أعرابي ، فقال : «إن هذا اخترط علي سيفي ، وأنا نائم ، فاستيقظت وهو في يده فقال : من يمنعك مني ؟ » فقلت : الله ، ثلاثا ، ولم يعاقبه وجلس .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 18 ] وروى الإمام أحمد والطبراني عن جعدة رضي الله تعالى عنه قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي برجل فقال : هذا أراد أن يقتلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لن تراع ، لو أردت ذلك لم يسلطك الله علي» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي شيبة ، والإمام أحمد وعبد بن حميد ومسلم والثلاثة عن أنس رضي الله تعالى عنه أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل التنعيم متسلحين يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا عليهم ، فأخذهم سلما فعفا عنهم ، واستحياهم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى النسائي ، وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ، ثم قام فقمت حين قام ، فنظرنا إلى أعرابي قد أدركه ، فجذبه بردائه ، فحمر رقبته ، وكان رداؤه خشنا ، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له الأعرابي : احملني على بعيري هذين ، فإنك لا تحملني من مالك ، ولا من مال أبيك ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا ، وأستغفر الله ، لا وأستغفر الله ، لا وأستغفر الله لا أحملك حتى تقيدني من جبذتك» وكل ذلك يقول الأعرابي : والله لا أقيدكها ، فذكر الحديث ، وفيه : ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله تعالى عنه فقال : احمل له على بعيريه هذين -على بعير تمرا ، وعلى الآخر شعيرا- ثم التفت إلينا ، فقال : «انصرفوا على بركة الله تعالى» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة طاف بالبيت وصلى ركعتين ، ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب فقال : «ما تقولون ؟ وما تظنون ؟ » قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم ، قالوا ذلك ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أقول كما قال أخي يوسف لإخوته» -عليه السلام- لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين [يوسف : 92] فخرجوا ، فكأنما نشروا من القبور ، فأسلموا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عساكر ، عن الزهري ، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : لما كان يوم فتح مكة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صفوان بن أمية ، وأبي سفيان بن حرب ، والحارث بن هشام ، قال عمر رضي الله تعالى عنه فقلت : قد أمكنني الله عز وجل منهم اليوم؛ لأعرفنهم بما صنعوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مثلي ومثلكم كما قال يوسف عليه السلام لإخوته» : [ ص: 19 ] لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين فانفضحت حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية أن يكون يدري ، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو الشيخ ، وابن حبان عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يقبض يوم حنين من فضة في ثوب بلال ، ويفرقها ، فقال له رجل : يا رسول الله أعدل ، فقال : «ويحك ، من يعدل إذا أنا لم أعدل ؟ قد خبت وخسرت إن كنت لا أعدل» فقال عمر رضي الله تعالى عنه : ألا أضرب عنقه فإنه منافق ؟ فقال : «معاذ الله أن يتحدث أني أقتل أصحابي» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى مسلم ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة ليؤلفهم ، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل ، وأعطى ناسا من أشراف العرب ، وآثرهم يومئذ في القسمة ، فقال رجل : إن هذه لقسمة ما عدل فيها ، وما أريد بها وجه الله تعالى ، قال : فقلت : والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتيته ، فأخبرته بما قال ، فتغير وجهه حتى كان كالصرف ، ثم قال : «فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله ؟ ثم قال : يرحم الله موسى عليه السلام ، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن حبان ، والحاكم ، عن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه : أن زيد بن سعية -وهو أحد علماء أهل الكتاب من اليهود- وقال النووي رحمه الله تعالى : هو أحد أحبار اليهود الذين أسلموا- قال : إنه لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه ، إلا اثنتين لم أخبرهما منه : أن يسبق حلمه جهله ، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما ، فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه ، فابتعت منه تمرا معلوما إلى أجل معلوم ، وأعطيته الثمن ، فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة ، أتيته ، فأخذت بجامع قميصه وردائه ، ونظرت إليه بوجه غليظ ، فقلت : يا محمد ألا تقضيني حقي ؟ فوالله إنكم يا بني عبد المطلب لمطل ، وقد كان لي بمخالطتكم علم ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : أي عدو الله ، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع ؟ فوالله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون ، وتؤدة ، وتبسم ، ثم قال : «أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر ، تأمرني بحسن الأداء ، وتأمره بحسن التباعة ، اذهب يا عمر فاقضه حقه ، وزده عشرين صاعا ، مكان ما رعته» ففعل عمر رضي الله تعالى عنه ، فقلت : [ ص: 20 ] يا عمر ، كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنتين لم أخبرهما منه ، يسبق حلمه جهله ، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما ، فقد خبرتهما ، فأشهدك أني رضيت بالله تعالى ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد ، وأبو الشيخ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : ابتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم جزورا من أعرابي بوسق من تمر الذخيرة ، فجاء منزله ، فالتمس التمر ، فلم يجده ، فخرج إلى الأعرابي فقال : «عبد الله ، إنا قد ابتعنا منك جزورك هذا بوسق من تمر الذخيرة ، ونحن نرى أن عندنا ، فلم نجده» فقال الأعرابي : واغدراه واغدراه ، فوكزه الناس وقالوا : إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول هذا ؟ فقال : «دعوه؛ فإن لصاحب الحق مقالا» فردد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثا ، فلما رآه لا يفقه عنه قال لرجل من أصحابه : «اذهب إلى خولة بنت حكيم بن أمية فقل لها : رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك : إن كان عندك وسق من تمر الذخيرة فسلفينا حتى نؤديه إليك إن شاء الله تعالى» فذهب إليها الرجل ثم رجع قال : قالت : نعم ، هو عندنا يا رسول الله ، فابعث من يقبضه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل : «اذهب فأوفه الذي له» فذهب ، فأوفاه الذي له ، قال فمر الأعرابي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس في أصحابه ، فقال : جزاك الله خيرا ، فقد أوفيت وأطيبت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أولئك خيار الناس الموفون المطيبون» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الشيخان عن أبي هريرة أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ له ، فهم به أصحابه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «دعوه فإن لصاحب الحق مقالا ، ثم قال : أعطوه شيئا مثل سنه» فقالوا : يا رسول الله ، لا نجد إلا أفضل من سنه ، قال : «أعطوها ، وخيركم أحسنكم قضاء» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة ، فأكل منها فجيء بها ، فقيل : ألا تقتلها فقال : «لا» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الشيخان عن عائشة وابن أبي حاتم عن عكرمة ، وروى أبو الحسن بن الضحاك عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : أبصرت عيناي ، وسمعت أذناي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالجعرانة ، وفي ثوب بلال فضة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يفضها على الناس ، فيعطيهم ، فقال له [ ص: 21 ] رجل : يا رسول الله اعدل ، فقال : «ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل ؟ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل» فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله دعني أقتل هذا المنافق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «معاذ الله أن يتحدث الناس أنني أقتل أصحابي ، إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن ، لا يجاوز حلوقهم أو قال : حناجرهم ، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد وعبد بن حميد ، والبخاري والنسائي وأبو الشيخ ، والبيهقي عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه : سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود ، فاشتكى لذلك أياما ، فأتاه جبريل عليه السلام ، فقال : إن رجلا من اليهود سحرك ، فعل لذلك عقدا ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله تعالى عنه فاستخرجها ، فجاء بها فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال ، فما ذكر ذلك لليهودي ، ولا رآه في وجهه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البيهقي في شعب الإيمان ، مرسلا عن عبد الله بن عبيد مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كسرت رباعيته ، وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه ، وقالوا : لو دعوت عليهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إني لم أبعث لعانا ، ولكن بعثت داعيا ورحمة ، اللهم اهد قومي؛ فإنهم لا يعلمون» ، ورواه موصولا عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه مختصرا : «اللهم : اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون» ولله در القائل حيث قال :


                                                                                                                                                                                                                              وما الفضل إلا أنت خاتم فضة وعفوك نقش الفص فاختم به عذري

                                                                                                                                                                                                                              ومن رحمته ورأفته صلى الله عليه وسلم بأمته تخفيفه وتسهيله عليهم ، وكراهيته أشياء مخافة أن تفرض عليهم ، كقوله صلى الله عليه وسلم : «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء ، ومع كل صلاة ، ولأخرت العشاء إلى ثلث الليل»وخبر قيام رمضان ، ونهيه عن الوصال ، وكراهته دخول الكعبة؛ لئلا يعنت أمته ، ورغبته لربه أن يجعل سبته ولعنته رحمة لمن سبه وزكاة وطهورا .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية