الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : "فمن لم يجد " ، لكفارة يمينه التي لزمه تكفيرها من الطعام والكسوة والرقاب ما يكفرها به على ما فرضنا عليه وأوجبناه في كتابنا وعلى لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم "فصيام ثلاثة أيام " ، يقول : فعليه صيام ثلاثة أيام .

ثم اختلف أهل العلم في معنى قوله : "فمن لم يجد " ، ومتى يستحق الحانث في يمينه الذي قد لزمته الكفارة ، اسم "غير واجد " ، حتى يكون ممن له الصيام في ذلك .

فقال بعضهم : إذا لم يكن للحانث في وقت تكفيره عن يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته ، فإن له أن يكفر بالصيام . فإن كان عنده في ذلك الوقت قوته وقوت عياله يومه وليلته ، ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين أو ما يكسوهم ، لزمه التكفير بالإطعام أو الكسوة ، ولم يجزه الصيام حينئذ .

وممن قال ذلك الشافعي :

12491 - حدثنا بذلك عنه الربيع .

وهذا القول قصد إن شاء الله من أوجب الطعام على من كان عنده درهمان ، [ ص: 558 ] من أوجبه على من عنده ثلاثة دراهم . وبنحو ذلك : -

12492 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الكريم ، عن سعيد بن جبير ، قال : إذا لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم قال : يعني في الكفارة .

12493 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني معتمر بن سليمان قال : قلت لعمر بن راشد : الرجل يحلف ولا يكون عنده من الطعام إلا بقدر ما يكفر ، قال : كان قتادة يقول : يصوم ثلاثة أيام .

12494 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، حدثنا يونس بن عبيد ، عن الحسن قال ، إذا كان عنده درهمان .

12495 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا معتمر ، عن حماد ، عن عبد الكريم أبي أمية ، عن سعيد بن جبير قال : ثلاثة دراهم .

وقال آخرون : جائز لمن لم يكن عنده مائتا درهم أن يصوم ، وهو ممن لا يجد .

وقال آخرون : جائز لمن لم يكن عنده فضل عن رأس ماله يتصرف به لمعاشه ما يكفر به بالإطعام أن يصوم ، إلا أن يكون له كفاية ، ومن المال ما يتصرف به لمعاشه ، ومن الفضل عن ذلك ما يكفر به عن يمينه . وهذا قول كان يقوله بعض متأخري المتفقهة .

[ ص: 559 ] قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن من لم يكن عنده في حال حنثه في يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته ، لا فضل له عن ذلك ، يصوم ثلاثة أيام ، وهو ممن دخل في جملة من لا يجد ما يطعم أو يكسو أو يعتق . وإن كان عنده في ذلك الوقت من الفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته ، ما يطعم أو يكسو عشرة مساكين ، أو يعتق رقبة ، فلا يجزيه حينئذ الصوم ، لأن إحدى الحالات الثلاث حينئذ من إطعام أو كسوة أو عتق ، حق قد أوجبه الله تعالى ذكره في ماله وجوب الدين . وقد قامت الحجة بأن المفلس إذا فرق ماله بين غرمائه : أنه لا يترك ذلك اليوم إلا ما لابد له من قوته وقوت عياله يومه وليلته . فكذلك حكم المعدم بالدين الذي أوجبه الله تعالى ذكره في ماله بسبب الكفارة التي لزمت ماله .

واختلف أهل العلم في صفة الصوم الذي أوجبه الله في كفارة اليمين . فقال بعضهم : صفته أن يكون مواصلا بين الأيام الثلاثة غير مفرقها .

ذكر من قال ذلك :

12496 - حدثنا محمد بن العلاء قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد قال : كل صوم في القرآن فهو متتابع ، إلا قضاء رمضان ، فإنه عدة من أيام أخر .

12497 - حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس قال : كان أبي بن كعب يقرأ : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12498 - حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله بن [ ص: 560 ] موسى ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، أنه كان يقرأ : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12499 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن قزعة ، عن سويد ، عن سيف بن سليمان ، عن مجاهد ، قال : في قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12500 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن ابن عون ، عن إبراهيم قال : في قراءتنا : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12501 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن إبراهيم ، مثله .

12502 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قراءة أصحاب عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12503 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر قال : في قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12504 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن حميد ، عن معمر ، عن أبي إسحاق في قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12505 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن حميد ، عن معمر ، [ ص: 561 ] عن الأعمش قال : كان أصحاب عبد الله يقرؤن : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12506 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع قال ، سمعت سفيان ، يقول : إذا فرق صيام ثلاثة أيام لم يجزه . قال : وسمعته يقول في رجل صام في كفارة يمين ثم أفطر ، قال ، يستقبل الصوم .

12507 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : "فصيام ثلاثة أيام " ، قال : إذا لم يجد طعاما ، وكان في بعض القراءة : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . وبه كان يأخذ قتادة .

12508 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة ، الأول فالأول ، فإن لم يجد من ذلك شيئا فصيام ثلاثة أيام متتابعات .

وقال آخرون : جائز لمن صامهن أن يصومهن كيف شاء ، مجتمعات ومفترقات .

ذكر من قال ذلك :

12509 - حدثني يونس قال ، أخبرنا أشهب قال ، قال مالك : كل ما ذكر الله في القرآن من الصيام ، فأن يصام تباعا أعجب . فإن فرقها رجوت أن تجزئ عنه .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى [ ص: 562 ] ذكره أوجب على من لزمته كفارة يمين ، إذا لم يجد إلى تكفيرها بالإطعام أو الكسوة أو العتق سبيلا أن يكفرها بصيام ثلاثة أيام ، ولم يشرط في ذلك متتابعة . فكيفما صامهن المكفر مفرقة ومتتابعة أجزأه . لأن الله تعالى ذكره إنما أوجب عليه صيام ثلاثة أيام ، فكيفما أتى بصومهن أجزأ .

فأما ما روى عن أبي وابن مسعود من قراءتهما : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) ، فذلك خلاف ما في مصاحفنا . وغير جائز لنا أن نشهد لشيء ليس في مصاحفنا من الكلام أنه من كتاب الله . غير أني أختار للصائم في كفارة اليمين أن يتابع بين الأيام الثلاثة ، ولا يفرق . لأنه لا خلاف بين الجميع أنه إذا فعل ذلك فقد أجزأ ذلك عنه من كفارته ، وهم في غير ذلك مختلفون . ففعل ما لا يختلف في جوازه أحب إلي ، وإن كان الآخر جائزا .

التالي السابق


الخدمات العلمية