الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ذكر نبذ من أحوال الإسكندر] .

قد ذكرنا أن هذا الإسكندر هو ابن فيلبوس ، وبعضهم يقول: ابن بيلبوس بن مطريوس . ويقال: ابن مصريم بن هرمس بن هردس بن مسطون بن رومي بن [ ص: 425 ] يلظى بن يونان بن يافث بن توبة بن سرحون بن رومية بن يرثط بن توفيل بن زوفي بن الأصفر بن أليفز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام .

ولما هلك دارا ملك الإسكندر ملك دارا ، فملك العراق والروم والشام ومصر ، وعرض جنده بعد هلاك دارا فوجدهم ألف ألف وأربع مائة ألف رجل ، منهم من جنده ثمانمائة ألف ، ومن جند دارا ستمائة ألف . فجلس على سريره ، وقال: أدالنا الله من دارا ، ورزقنا خلاف ما كان يتوعدنا به ، وهدم ما كان ببلاد الفرس من المدن والحصون وبيوت النيران ، وقتل الهرابذة ، وأحرق كتبهم ودواوين دارا ، واستعمل على مملكة دارا رجلا من أصحابه ، وسار إلى أرض الهند ، فقتل ملكها وفتح مدينتها .

ثم سار منها إلى الصين ، وصنع بها كصنيعه بالهند ، ودانت له عامة الأرض ، وملك الصين والتبت .

أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز ، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي ، عن أبيه ، قال: حدثني أبو الفرج الأصفهاني ، قال: قرأت في بعض كتب الأوائل أن الإسكندر لما انتهى إلى ملك الصين أتاه صاحبه وقد مضى من الليل شطره ، وقال له: هذا رسول ملك الصين بالباب يستأذن عليك ، فقال: أحضروه . فوقف بين يديه وسلم ثم قال: إن رأى الملك أن تخليني ، فأمر الإسكندر من بحضرته من أصحابه فانصرفوا ، وبقي صاحبه ، فقال: الذي جئت فيه لا يحتمل أن يسمعه غيرك . فقال الإسكندر فتشوه ، ففتش فلم يصب معه حديد ، فوضع الإسكندر بين يديه سيفا وقال له: كن بمكانك وقل ما شئت ، وخرج كل ما كان عنده ، فقال: قل .

فقال له: إني أنا الملك لا رسوله ، وقد جئتك أسألك عما تريد مما يمكن عمله ولو على أصعب الأمور فإني أعمله فأغنيك عن الحرب ، فقال له الإسكندر: ما آمنك مني؟ قال: علمي بأنك رجل عاقل وليس بيننا عداوة ولا مطالبة قد حلت . وأنت تعلم أنك [ ص: 426 ] إن قتلتني لم تحظ بطائل ، ولم يكن سببا لأخذ مملكة الصين ، ولم يمنعهم قتلي أن ينصبوا لأنفسهم ملكا ، ثم تنسب أنت إلى غير الجميل وصيد الحريم .

فأطرق الإسكندر وعلم أنه رجل عاقل ، فقال: الذي أريد منك ارتفاع مملكتك لثلاث سنين عاجلا ، ونصف ارتفاع مملكتك في كل سنة ، فقال: هل غير ذلك شيء؟

قال: لا ، قال: قد أجبتك ، قال: كيف يكون حالك حينئذ؟ قال: أكون قتيلا وأكلة كل مفترس . قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنتين كيف يكون حالك؟ قال: أصلح مما كانت ، قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنة ، قال: يكون ذلك كمالا لأمر ملكي ومذهبا جميع أذاي ، قال: فإذا اقتصرت منك على النصف من ارتفاع السنة ، قال: يكون الملك ثابتا وأسبابه مستقيمة ، قال: فإذا اقتصرت منك على ارتفاع الثلث؟ قال: يكون السدس وقفا ، ويكون الباقي لجيشي وأسباب الملك . قال: فقد اقتصرت منك على هذا ، فشكره وانصرف .

فلما طلعت الشمس أقبل جيش الصين حتى طبق الأرض وأحاط بجيش الإسكندر حتى خافوا الهلاك ، فتواثب أصحابه فركبوا الخيل واستعدوا للحرب .

فبينما هم كذلك إذ طلع وعليه التاج فلما رأى الإسكندر ترجل له ، فقال له الإسكندر: غدرت ، قال: لا والله ، قال: فما هذا الجيش؟ قال: أردت أن أريك أنني لم أطعك عن قلة وضعف ، وأنت ترى الجيش وما غاب عنك أكثره ، ولكن رأيت العالم الكبير مقبلا فملكنا لك ممن هو أقوى منك وأكثر من عددك ، ومن حارب العالم الكبير غلب ، وأردت طاعته بطاعتك ، والذلة بأمره بالذلة لك .

فقال الإسكندر: ليس مثلك من يؤخذ منه خراج ، فما رأيت بيني وبينك أحدا يستحق الفضل والوصف بالعدل غيرك ، فقد أعفيتك من جميع ما أردته منك ، وأنا منصرف عنك .

فقال له ملك الصين: أما إذا فعلت ذلك فليس بحسن . ثم انصرف الإسكندر فبعث إليه ملك الصين هدايا أضعاف ما كان قرر معه .

وكان أرسطاطاليس مؤدب الإسكندر في صغره ، فقال له ولصبيان معه: أي شيء [ ص: 427 ] تعملون إذا ملكتم ، فكل واحد بذل من نفسه شيئا ، فقال الإسكندر: أعمل حسب ما يوجبه الوقت ، ويقتضيه العقل ، فقال له: أنت أحرى بالرئاسة والملك .

فلما ملك الإسكندر كان أرسطاطاليس له كالوزير يكاتبه ويعمل برأيه ، فكتب إليه:

إن في عسكري جماعة لا آمنهم على نفسي لبعد هممهم وشجاعتهم ، ولا أرى لهم عقولا تفي بتلك الفضائل .

فكتب إليه: أما ما ذكرت من بعد هممهم ، فإن الوفاء من بعد الهمة . وأما شجاعتهم ونقص عقولهم فمن هذه حاله فرفهه في معيشته ، وأخصصه بحسان النساء ، فإن رفاهية العيش توهي العزم ، وتحبب السلامة ، وليكن خلقك حسنا تخلص لك النيات ، ولا تتناول من لذيذ العيش ما لا يمكن أوساط رعيتك مثله ، فليس مع الاستئثار محبة ، ولا مع المواساة بغضة .

واعلم أن المملوك إذا اشتري لا يسأل عن مال سيده ، وإنما يسأل عن خلقه .

وهذا أرسطاطاليس كان من كبار الحكماء ، قال يوما أفلاطون لأصحابه: ما العجب؟ فتكلموا ، فقال أرسطاطاليس: ما ظهر وخفيت علته ، قال: أنت أفضل الجماعة .

وكان أرسطاطاليس يقول: لكل شيء صناعة ، وصناعة العقل حسن الاختيار .

وقال: اعص الهوى وأطع من شئت .

وقيل له: ألا تجتمع الحكمة والمال؟ فقال: آخر الكمال .

وكتب إلى بعض ملوك يونان وكان مستهترا باللعب: إذا علمت الرعايا تسليط الهوى على الملك تسلطت عليه ، فاقهر هواك تفضل حكمتك ، والسلام .

فكتب الملك: أيها الحكيم إذا كانت بلادنا عامرة ، وسبلنا آمنة ، وعمالنا عادلة ، فلم تمنع لذة عاجلة؟

فكتب إليه: إنما تمهدت الأمور على ما ذكرت بيقظتك بالحكمة دون غفلتك باللذة ، فما أخوفني أن تهدم ما بنته الحكمة ما جنته الغفلة . فأقبل الملك على السياسة .

[ ص: 428 ] وقد ذكر بعض من لا يعلم

أن الإسكندر هو الذي دخل الظلمات ، وهذا غلط ، وإنما أشكل عليهم لاشتراك الاثنين في الاسم والتسمية بالإسكندر . وقد ذكرنا خبر ذاك في زمن إبراهيم الخليل ، وأنه عاش ألف سنة وستمائة سنة ، وهذا اليوناني عاش ستا وثلاثين سنة . وملك ثلاث عشرة سنة وأشهرا ، وبنى مدنا كثيرة ، وتوفي في بعض قرى بابل .

التالي السابق


الخدمات العلمية