الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الرابع عشر

                                                                                                                                                                                                                              في إعطائه القود من نفسه صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                                              روى ابن سعد -بسند رجاله ثقات- عن عمرو بن شعيب قال : لما قدم عمر الشام أتاه رجل يستأذنه على أمير ضربه ، فأراد عمر أن يقيده ، فقال له عمرو بن العاص : أتقيده منه ؟ قال : نعم ، قال : فلا نعمل لك عملا ، قال : لا أبالي أن أقيده منه ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي القود من نفسه ، قال : أفلا نرضيه ؟ قال : أرضوه إن شئتم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى إبراهيم الحربي عن عطاء قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبيده قضيب ، فأصاب بطن الأعرابي ، وزحم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي فخدشه ، فقال : «اقتص» ، فأبى ، فقال : «لتقتصن ، أو لتأخذن تبعة الغير» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد عن سعيد بن المسيب قال : أقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه ، وأقاد أبو بكر من نفسه ، وأقاد عمر من نفسه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عساكر والحاكم عن حبيب بن مسلمة قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى القصاص من نفسه في خدش خدشه أعرابيا لم يتعمده ، فأتاه جبريل فقال : يا محمد إن الله لم يبعثك جبارا ، ولا متكبرا ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي فقال : «اقتص مني» ، فقال الأعرابي : قد أحللتك ، بأبي وأمي ، وما كنت لأفعل ذلك أبدا ، ولو أتيت على نفسي ، فدعا له بخير .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي شيبة ، وأبو الحسن بن الضحاك عن عمر رضي الله تعالى عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتص من نفسه .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر عن رجل من العرب قال : زحمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، وفي رجلي نعل كثيفة ، فوطئت بها على رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفحني بسوط في يده ، وقال : «باسم الله أوجعتني» ، فبت لائما نفسي ، أقول : أوجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبحنا فإذا رجل يقول : أين فلان ؟ فقلت : هذا والله الذي كان مني بالأمس ، فانطلقت ، وأنا متخوف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنك وطئت بنعلك رجلي بالأمس فأوجعتني ، فنفحتك بسوط ، فهذه ثمانون نعجة فخذها بها» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن حبان في صحيحه ، وأبو الحسن بن الضحاك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في الجهاد ، فاجتمعوا عليه حتى غموه ، وفي يده [ ص: 69 ] جريدة سلاها ، وبقيت هكذا سلاة ، ثم لم ينظروا إليها فقال : أخروا عني؛ لهذا غميتموني ، فأصاب النبي صلى الله عليه وسلم بطن رجل فأدماه ، فخرج الرجل ، وهو يقول : هذا فعل نبيك ، فسمعه عمر فقال : انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كان هو أصابك فسوف يعطيك من نفسه الحق ، وإن كنت كذبت لأرغمك بعمامتك حتى يتحدث ، فقال الرجل : انطلق بسلام ، فلست أريد أنطلق معك ، قال : ما أنا بوادعك ، فانطلق ، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : «أحقا أنا أصبتك ؟ » قال : نعم ، قال : «فما تريد ؟ » قال : فأستقيد منك ، فأمكنه من الجريدة ، وكشف عن بطنه ، فألقى الجريدة من يده ، وقبل سرته ، وقال : «هذا أردت ، لكي ما يقمع الجبار من بعدك» ، فقال عمر : أنت كنت أوثق عملا مني .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الدارمي وعبد بن حميد ، وعبد الرزاق عن أبي هريرة أو أبي سعيد قال : كان رجل من المهاجرين ، وكان ضعيفا ، وكان له حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد أن يلقاه على خلاء فيسأل حاجته ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معسكرا بالبطحاء ، وكان يجيء من الليل ، فيطوف البيت ، حتى إذا كان في وجه السحر صلى بهم صلاة الغداة ، فحبسه الطواف ذات ليلة حتى أصبح ، فلما استوى على راحلته عرض له الرجل ، فأخذ بخطام ناقته ، فقال : يا رسول الله ، لي إليك حاجة ، قال : إنك ستدرك حاجتك ، فأبى ، فلما خشي أن يحبسه خفقه بالسوط ، ثم مضى ، فصلى بهم صلاة الغداة ، فلما انفتل أقبل بوجهه إلى القوم ، وكان إذا فعل ذلك عرفوا أنه قد حدث أمر ، فاجتمع القوم حوله ، فقال : أين الرجل الذي جلدت آنفا ؟ فأعادها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل الرجل يقول : أعوذ بالله ، ثم برسول الله ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ادنه ادنه» حتى دنا منه ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ، وناوله السوط ، فقال : «خذ بمجلدك فاقتص» فقال : أعوذ بالله أن أجلد نبيه ، فقال : «إلا أن تعفو» ، فألقى السوط وقال : قد عفوت يا رسول الله ، فقام إليه أبو ذر فقال : يا رسول الله ، تذكر ليلة العقبة ، وأنا أسوق بك ، وأنت نائم ، كنت إذا سقتها أبطأت ، وإذا سقتها اعترضت ، فخفقتك خفقة بالسوط ، وقلت : قد أتاك القوم ، وقلت : «لا بأس عليك» ، فدعا برسول الله أن يقتص ، قال : «قد عفوت» ، قال : اقتص ، فهو أحب إلي ، فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقد رأيته يتضور من جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : «أيها الناس اتقوا الله ، فوالله لا يظلم مؤمن مؤمنا إلا انتقم الله تعالى منه يوم القيامة» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه [ ص: 70 ] قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسما أقبل رجل عليه ، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه ، فجرح في وجهه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تعال فاستقد» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو الحسن بن الضحاك عن عبد الرحمن بن جبير الخزاعي قال : طعن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في بطنه ، إما بقضيب ، أو بسواك ، قال : أوجعتني ، فأقدني ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم العود الذي كان معه ، ثم قال : «استقد ، فقبل بطنه» ، وقال : بل أعفو عنك ، لعلك أن تشفع في يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن قاسم وأبو الحسن بن الضحاك عن سواد بن عمرو قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متخلق بخلوق فقال ورس : حط حط ، وغشيني بقضيب في يده في بطني فأوجعني ، فقلت : يا رسول الله! القصاص ، فكشف لي عن بطنه ، فأقبلت أقبله ، فقلت يا رسول الله : دعني وأخرها شفاعة لي يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن قانع عن عبد الله بن أبي الباهلي قال : جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فألفيته واقفا على بعيره ، فكأن ساقه في غرزه الجمارة ، فاحتضنتها فقرعني بالسوط ، فقلت : القصاص يا رسول الله ، فرفع السوط ، فقبلت ساقه ورجله .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر محمد بن عمر الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو يسير في الطائف إلى الجعرانة ، وأبو رهم إلى جنبه على ناقته ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته ، قال أبو رهم : فوقع حرف نعلي على ساقه ، فأوجعه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أوجعتني ، أخر رجلك ، وقرع رجلي بالسوط» ، فأخذني من الهم ما تقدم وما تأخر ، وخشيت أن ينزل في قرآن؛ لعظم ما صنعت ، فلما أصبحنا بالجعرانة خرجت أرعى ظهري ، وما هو يومي؛ فرقا أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يطلبني ، فلما روحت بالركائب سألت ، فقالوا : طلبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجئته ، وأنا أرتقب ، فقال : «إنك أوجعتني برجلك ، فقد نحيتك بالسوط ، فخذ هذه الغنم عوضا من ضربتي» ، قال : فرضاه أحب إلي من الدنيا وما فيها .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية