الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 458 ]

                                                                                                                                                                                                                                      سورة المؤمنون

                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون .

                                                                                                                                                                                                                                      سورة المؤمنون مكية في قول الجميع .

                                                                                                                                                                                                                                      روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لقد أنزلت علينا عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ، ثم قرأ : قد أفلح المؤمنون إلى عشر آيات " ، رواه الحاكم أبو عبد الله في " صحيحه " . وروى أبو سعيد الخدري [ ص: 459 ] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله تعالى حاط حائط الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وغرس غرسها بيده ، فقال لها : تكلمي ، فقالت : قد أفلح المؤمنون ، فقال لها : طوبى لك منزل الملوك " . قال الفراء : " قد " هاهنا يجوز أن تكون تأكيدا لفلاح المؤمنين ، ويجوز أن تكون تقريبا للماضي من الحال ; لأن " قد " تقرب الماضي من الحال حتى تلحقه بحكمه ، ألا تراهم يقولون : قد قامت الصلاة ، قبل حال قيامها ، فيكون معنى الآية : إن الفلاح قد حصل لهم ، وإنهم عليه في الحال . وقرأ أبي بن كعب ، وعكرمة ، وعاصم الجحدري ، وطلحة بن مصرف : ( قد أفلح ) بضم الألف وكسر اللام وفتح الحاء ، على ما لم يسم فاعله . قال الزجاج : ومعنى الآية : قد نال المؤمنون البقاء الدائم في الخير . ومن قرأ : ( قد أفلح ) بضم الألف ، كان معناه : قد أصيروا إلى الفلاح . وأصل الخشوع في اللغة : الخضوع والتواضع .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي المراد بالخشوع في الصلاة أربعة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أنه النظر إلى موضع السجود . روى أبو هريرة ، قال : كان رسول الله [ ص: 460 ] صلى الله عليه وسلم إذا صلى رفع بصره إلى السماء ، فنزلت : " الذين هم في صلاتهم خاشعون " فنكس رأسه . وإلى هذا المعنى ذهب مسلم بن يسار وقتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه ترك الالتفات في الصلاة ، وأن تلين كنفك للرجل المسلم ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أنه السكون في الصلاة ، قاله مجاهد ، وإبراهيم ، والزهري .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع : أنه الخوف ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي المراد باللغو هاهنا خمسة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : الشرك ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : الباطل ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والثالث : المعاصي ، قاله الحسن . والرابع : الكذب ، قاله السدي . والخامس : الشتم والأذى الذي كانوا يسمعونه من الكفار ، قاله مقاتل . قال الزجاج : واللغو : كل لعب ولهو ، وكل معصية فهي مطرحة ملغاة ; فالمعنى : شغلهم الجد فيما أمرهم الله به عن اللغو .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " للزكاة فاعلون " ; أي : مؤدون ، فعبر عن التأدية بالفعل ; لأنه فعل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " إلا على أزواجهم " قال الفراء : " على " بمعنى " من " . وقال الزجاج : المعنى : أنهم يلامون في إطلاق ما حظر عليهم وأمروا بحفظه ، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم لا يلامون . [ ص: 461 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " فمن ابتغى " ; أي : طلب ، " وراء ذلك " ; أي : سوى الأزواج والمملوكات ، " فأولئك هم العادون " يعني : الجائرين الظالمين ; لأنهم قد تجاوزوا إلى ما لا يحل . " والذين هم لأماناتهم " قرأ ابن كثير : ( لأمانتهم ) وهو اسم جنس ، والمعنى : للأمانات التي ائتمنوا عليها ، فتارة تكون الأمانة بين العبد وبين ربه ، وتارة تكون بينه وبين جنسه ، فعليه مراعاة الكل ، وكذلك العهد . ومعنى " راعون " : حافظون . قال الزجاج : وأصل الرعي في اللغة : القيام على إصلاح ما يتولاه الراعي من كل شيء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " على صلواتهم " قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : ( صلواتهم ) على الجمع . وقرأ حمزة والكسائي : ( صلاتهم ) على التوحيد ، وهو اسم جنس . والمحافظة على الصلوات : أداؤها في أوقاتها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " أولئك هم الوارثون " ذكر السدي عن أشياخه أن الله تعالى يرفع للكفار الجنة ، فينظرون إلى بيوتهم فيها لو أنهم أطاعوا ، ثم تقسم بين المؤمنين فيرثونهم ، فذلك قوله : " أولئك هم الوارثون " . وقد شرحنا هذا في ( الأعراف : 43 ) عند قوله : " أورثتموها " ، وشرحنا معنى الفردوس في ( الكهف : 107 ) .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية