الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مثل الائتمار بأمر الله تعالى ومثل القلوب مثل أمير ولي على كورة فوردها فوجد الكورة غياضا ومروجا وآجاما فيها الخنازير والسباع ومياه النز فلما نظر إليها رجع ناكصا على عقبيه فقال ليس مع هذا النز قوام ولا مع هذه الخنازير عيش ولا إمرة

[ ص: 317 ] وولي آخر على كورة أخرى فوجدها ذات قصور وبساتين وأنهار جارية وأشجار ومساكن نزهة وسكان كثيرة وأسواق مزينة فيها ألوان المتجر فحل بهم واستقر قراره وملكهم وتأمر عليهم ففتح باب خزائنه وقسم كنوزه فيما بينهم 92 حتى أغناهم وقواهم

فأمر الله تعالى عباده بأمور ونهاهم عن أشياء لا لجر نفع ولا لدفع ضر لكن رحمة منه عليهم ورأفة بهم فمن وافاه أمره فوجد صدره مشحونا بأشغال أحوال النفس وقلبه مشغوفا بحب الدنيا ونفسه مفتونة بالشهوات والمنى وعقله معتوها بالهوى رجع الأمير قهقرى ولا يجد محلا ولا مستقرا لأن في هذا القلب من العتاهة وفي هذه النفس من النهمات والشهوات وفي هذا الصدر من الأماني والفتن والمكر والغل والحسد والخيانة وأشغال وسواس العبد ما هو أقبح لأن هذه الأشياء أقبح من الخنازير ومن الهوى ما هو أكثر ضررا من النز فكيف يقدر الأمير أن يملك هذا القلب ويحل بهذا الصدر [ ص: 318 ] ويتملك على هذه النفس وكيف يقتضي العقل القيام بها

ومن وافى إمرته فوجد قلبا مشحونا بحب الله تعالى وصدرا مشرقا بنور الله تعالى ونفسا مزينة بنزهة بساتين الله تعالى وعقلا مشحونا بنور وجه الله تعالى حل به الأمير فشرب القلب حلاوة الأمر وطعمت النفس لبابه وازداد العقل بالرأفة التي تضمنت الأمر وظهر العمل على الأركان على حسب ما وصفنا من الباطن

وهذا لما ذكرنا أن الله تعالى لم يأمر عباده أمرا لجر منفعة ولا نهاهم لدفع مضرة ولكن أمرهم رأفة بهم ورحمة عليهم ولما فيه مصالحهم ودفع المضار عنهم أمر الله على نوعين

فأمره على نوعين فأمر منه موافق طبعه كقوله كلوا واشربوا الآية فتهتش إليه النفس وتسر به

وأمر يتثاقل عليه ويتباطأ كقوله صم عن الأكل والشرب فمن ساكن قلبه حب الله تعالى وعظمته وجلالته فشرب قلبه حلاوة الأمر لأن حلاوة الحب تحليه وعظمته تعظمه وجلاله يجله [ ص: 319 ] فتعمل الأركان على ما في الصدر والقلب فإن كان هذا الأمر محبوبا فهذه صفته وإن كان مكروها لاحظت عين فؤاده رحمة الله ورأفته عليه فمر في ذلك الأمر كالسهم وهانت عليه أثقالها ورأى أن أباه إذا أقعده بين يدي الختان ليختنه أو بين يدي الحجام ليحجمه أو بين يدي الطبيب ليشربه دواء من الأدوية المرة البشعة فلم يخل من وجع وألم وأذى ولكن لم يتهم والده في ذلك لما علم من رأفته وشفقته عليه فكذا لما رأى من رأفة الله ورحمته وشفقته عليه لا يتهمه بهذا الأمر وإن كان غير موافق طبعه فقبله مسرعا وقام به على الاهتشاش

فهذا أمير وافى قلبا غنيا وصدرا عامرا ونفسا طيبة نزهة ومن كان بخلاف تلك الصفة فقد وافى أمره قلبا خربا وصدرا ذا مروج وخنازير ونفسا بطالة شرهة وعقلا معتوها بالهوى فأمر الله جل وعلا على هذه الأركان كما كان أمر الله على المنافقين الذين كانوا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم لهم مقارنة معهم في مغازيه ومجمع الصلاة والصيام والجمع والأعياد وقلوبهم حزبة فقد مضت تلك الصفة ولا يزال في [ ص: 320 ] كل قرن منهم يزداد ويكثر حتى امتلأت الأرض منهم وغلبت وقل أهل الصدق

وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه ومساجدهم عامرة من أبدانهم وقلوبهم حزبة من الهدى أولئك شر من تظل السماء منهم تخرج الفتنة وعليهم تعود

التالي السابق


الخدمات العلمية