الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 618 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة البلد

وهي مكية في قول جمهور المفسرين، وقال قوم هي مدنية.

قوله عز وجل:

لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يقول أهلكت مالا لبدا أيحسب أن لم يره أحد ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين

قرأ الحسن بن أبي الحسن "لأقسم"، وقرأ الجمهور: "لا أقسم" ، واختلفوا - فقال الزجاج وغيره: "لا" صلة زائدة مؤكدة، واستأنف قوله تعالى "أقسم"، وقال مجاهد : "لا" رد للكلام متقدم للكفار، ثم استأنف قوله تعالى، "أقسم"، وقال بعض المتأولين: "لا" نفي للقسم بالبلد، أخبر الله تعالى أنه لا يقسم به.

ولا خلاف بين المفسرين أن البلد المذكور هو مكة. واختلف في معنى قوله تعالى: وأنت حل بهذا البلد فقال ابن عباس وجماعة: معناه: وأنت حلال بهذا البلد يحل لك فيه قتل من شئت، وكان هذا يوم فتح مكة، وعلى هذا يترتب قول من قال السورة مدنية نزلت عام الفتح، ويترتب على هذا التأويل قول من قال: "لا" نافية، أي: إن هذا البلد لا يقسم الله تعالى به، وقد جاء أهله بأعمال توجب إحلال حرمته، ويتجه أيضا أن تكون "لا" غير نافية. وقال بعض المتأولين: وأنت حل بهذا البلد معناه: حال ساكن بهذا البلد، وعلى هذا يجيء قول من قال: هي مكية، والمعنى على إيجاب القسم بين، وعلى نفيه أيضا يتجه على معنى: لا أقسم ببلد أنت ساكنه على أذى هؤلاء القوم وكفرهم. وذكر الثعلبي عن شرحبيل بن سعد أن معنى وأنت حل بهذا البلد أي: قد

[ ص: 619 ] جعلوك حلالا مستحل الأذى والإخراج والقتل لك لو قدروا، وإعراب البلد عطف بيان.

وقوله تعالى: ووالد وما ولد قسم مستأنف على قول من قال "لا" نافية، ومعطوف على قول من قال "لا" غير نافية، واختلف الناس في معنى قوله سبحانه: ووالد وما ولد - فقال مجاهد : هو آدم عليه السلام وجميع ولده، وقال بعض رواة التفسير: هو نوح عليه السلام وجميع ولده، وقال أبو عمران الجوني : هو إبراهيم عليه السلام وجميع ولده، وقال ابن عباس ما معناه: أن الوالد والولد هنا على العموم فهي أسماء جنس يدخل فيها جميع الحيوان، وقال ابن عباس ، وابن جبير ، وعكرمة : ووالد معناه: كل من ولد وأنسل، وقوله: وما ولد ، لم يبق تحته إلا العاقر الذي ليس بوالد البتة.

والقسم واقع على قوله تعالى: لقد خلقنا الإنسان في كبد ، واختلف الناس في " الكبد " ، فقال جمهور الناس: "الإنسان" اسم الجنس كله، والكبد: المشقة والمكابدة، أي: يكابد أمر الدنيا وأمر الآخرة، ومن ذلك قول لبيد :


يا عين هلا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم في كبد



وقول ذي الإصبع:


لي ابن عم لو أن الناس في كبد ...     لظل محتجرا بالنبل يرميني



وبالمشقة في أنواع أحوال الإنسان فسره الجمهور، وقال الحسن: لم يخلق الله تعالى [ ص: 620 ] خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم، وقال ابن عباس ، وعبد الله بن شداد ، وأبو صالح ، والضحاك ، ومجاهد : في كبد معناه: منتصف القامة واقفا، وقال ابن زيد : "الإنسان" : آدم عليه السلام، "وفي كبد" معناه: في السماء سماها كبدا، وهذان قولان قد ضعفا، والقول الأول هو الصحيح.

وروي أن سبب الآية وما بعدها هو أبو الأشدين، رجل من قريش شديد القوة، واسمه أسيد بن كلدة الجمحي، كان يحسب أن أحدا لا يقدر عليه، ويقال: بل نزلت في عمرو بن ود، ذكره النقاش ، وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة وقتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه خلف الخندق، وقال مقاتل : نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب فاستفتى النبي عليه الصلاة والسلام فأمره بالكفارة، فقال: لقد أهلكت مالا في الكفارات والنفقات مذ تبعت محمدا، وكان كل واحد منهم قد ادعى أنه أنفق مالا كثيرا على إفساد أمر النبي صلى الله عليه وسلم، أو في الكفارات على ما تقدم، فوقف القرآن على جهة التوبيخ للمذكور، وعلى جهة التوبيخ لاسم الجنس كله.

و يقدر نصب بـ "لن" و"أن" مخففة من الثقيلة، وكان قول هذا الكافر: أهلكت مالا لبدا كذبا منه، فلذلك قال: أيحسب أن لم يره أحد أي أنه رئي وأحصي فعله، فما باله يكذب، ومن قال: "إن المراد اسم الجنس غير مفرد" جعل قوله تعالى: أيحسب أن لم يره أحد بمعنى أيظن الإنسان أن ليس عليه حفظة يرون أعماله ويحصونها إلى يوم الجزاء؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيما أفناه؟ وجسمه فيما أبلاه؟ وماله من أين اكتسبه وأين أنفقه؟" .

واختلف القراء في قوله لبدا ، فقرأ جمهور الناس: "لبدا" بضم اللام وفتح [ ص: 621 ] الباء، وقرأ مجاهد : "لبدا" بضمهما، وذلك جمع "لبدة" أو جمع "لبود" بفتح اللام، وقرأ أبو جعفر يزيد: "لبدا" بضم اللام وفتح الباء وشدها، فيكون مفردا نحو "زمل"، ويكون جمع "لا بد"، وقد روي عن أبي جعفر "لبدا" بسكون الباء، والمعنى في هذه القراءات كلها مالا كثيرا متلبدا بعضه فوق بعض من التكاثف والكثرة، وقرأ الحسن: "لم يره" بسكون الراء لتوالي الحركات.

ثم عدد تعالى على الإنسان نعمه التي بها تقوم الحجة، وهي جوارحه، وقرن تعالى "الشفتين" باللسان لأن نعمة العبارة والكلام، لا تصح إلا بالجميع، وفي الحديث: يقول الله تعالى: "ابن آدم، إن نازعك لسانك إلى ما لا يحل، فقد أعنتك عليه بشفتين فأطبق"، واختلف الناس في "النجدين"- فقال ابن مسعود ، وابن عباس ، والناس: طريقا الخير والشر، أي عرضنا عليه طريقهما، وليست الهداية هنا بمعنى الإرشاد. وقال ابن عباس أيضا والضحاك : النجدان: ثديا الأم، وهذا مثال، والنجد: الطريق المرتفع، وأنشد الأصمعي :


كميش الإزار خارج نصف ساقه     صبور على الأرزاء طلاع أنجد



التالي السابق


الخدمات العلمية