الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى )

قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - للمؤمنين به وبرسوله : شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ، إن شهد اثنان ذوا عدل منكم ، أو كان أوصى إليهما أو آخران من غيركم إن كنتم في سفر فحضرتكم المنية ، فأوصيتم إليهما ، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال وتركة لورثتكم . فإذا أنتم أوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال ، فأصابتكم مصيبة الموت ، فأديا إلى ورثتكم ما اتمنتموهما وادعوا عليهما خيانة خاناها مما اتمنا عليه ، فإن الحكم فيهما حينئذ أن تحبسوهما يقول : تستوقفونهما بعد الصلاة . وفي الكلام محذوف اجتزئ بدلالة ما ظهر منه على ما حذف ، وهو : " فأصابتكم مصيبة الموت ، وقد أسندتم وصيتكم إليهما ، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال " فإنكم تحبسونهما من بعد الصلاة " فيقسمان بالله إن ارتبتم " يقول : فيحلفان بالله إن اتهمتموهما بخيانة فيما اتمنا عليه من تغيير وصية أوصى إليهما بها أو تبديلها و " الارتياب " هو الاتهام " لا نشتري به ثمنا " [ ص: 173 ] يقول : يحلفان بالله لا نشتري بأيماننا بالله ثمنا ، يقول : لا نحلف كاذبين على عوض نأخذه عليه ، وعلى مال نذهب به ، أو لحق نجحده لهؤلاء القوم الذين أوصى إلينا وليهم وميتهم .

و " الهاء " في قوله : " به " من ذكر " الله " والمعني به الحلف والقسم ، ولكنه لما كان قد جرى قبل ذلك ذكر القسم به ، فعرف معنى الكلام ، اكتفي به من إعادة ذكر القسم والحلف .

" ولو كان ذا قربى " يقول : يقسمان بالله لا نطلب بإقسامنا بالله عوضا فنكذب فيها لأحد ، ولو كان الذي نقسم به له ذا قرابة منا .

وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس .

ذكر من قال ذلك :

12947 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت " فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين ، فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين . فإن ارتيب في شهادتهما ، استحلفا بعد الصلاة بالله : لم نشتر بشهادتنا ثمنا قليلا .

وقوله : " تحبسونهما من بعد الصلاة " من صلاة الآخرين . ومعنى الكلام : [ ص: 174 ] أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة ، إن ارتبتم بهما ، فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى .

واختلفوا في " الصلاة " التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية ، فقال : " تحبسونهما من بعد الصلاة " .

فقال بعضهم : هي صلاة العصر .

ذكر من قال ذلك :

12948 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا زكريا عن الشعبي : أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ، فلم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب . قال : فقدما الكوفة ، فأتيا الأشعري فأخبراه ، وقدما بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! قال : فأحلفهما بعد العصر : بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ، ولا غيرا ، وإنها لوصية الرجل وتركته . قال : فأمضى شهادتهما .

12949 - حدثنا ابن بشار وعمرو بن علي قالا حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير : " أو آخران من غيركم " قال : إذا كان الرجل بأرض الشرك ، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب ، فإنهما يحلفان بعد العصر .

12950 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، بمثله .

12951 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة [ ص: 175 ] قوله : " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " إلى " فأصابتكم مصيبة الموت " فهذا رجل مات بغربة من الأرض ، وترك تركته ، وأوصى بوصيته ، وشهد على وصيته رجلان . فإن ارتيب في شهادتهما ، استحلفا بعد العصر . وكان يقال : عندها تصير الأيمان .

12952 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني هشيم قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم وسعيد بن جبير : أنهما قالا في هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " قالا إذا حضر الرجل الوفاة في سفر ، فليشهد رجلين من المسلمين . فإن لم يجد فرجلين من أهل الكتاب . فإذا قدما بتركته ، فإن صدقهما الورثة قبل قولهما ، وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر : بالله ما كذبنا ولا كتمنا ولا خنا ولا غيرنا .

12953 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا يحيى بن القطان قال : حدثنا زكريا قال : حدثنا عامر : أن رجلا توفي بدقوقا ، فلم يجد من يشهده على وصيته إلا رجلين نصرانيين من أهلها . فأحلفهما أبو موسى دبر صلاة العصر في مسجد الكوفة : بالله ما كتما ولا غيرا ، وأن هذه الوصية . فأجازها .

وقال آخرون : بل يستحلفان بعد صلاة أهل دينهما وملتهما .

ذكر من قال ذلك :

12954 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " إلى قوله : " ذوا عدل منكم " قال : هذا في الوصية عند الموت ، يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ما له وعليه ، قال : هذا في الحضر " أو آخران من غيركم " في السفر " إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت " هذا ، الرجل [ ص: 176 ] يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين ، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس ، فيوصي إليهما ، ويدفع إليهما ميراثه . فيقبلان به . فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا مال صاحبهم ، تركوا الرجلين . وإن ارتابوا ، رفعوهما إلى السلطان . فذلك قوله : " تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم " . قال عبد الله بن عباس : كأني أنظر إلى العلجين حين انتهي بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره ، ففتح الصحيفة ، فأنكر أهل الميت ، وخونوهما . فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر ، فقلت له : " إنهما لا يباليان صلاة العصر ، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما ، فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما ، ويحلفان بالله : لا نشتري ثمنا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ، أن صاحبهم لبهذا أوصى ، وأن هذه لتركته . فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا : إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ، ولم تجز لكما شهادة ، وعاقبتكما! فإذا قال لهما ذلك ، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها .

قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا ، قول من قال : " تحبسونهما من بعد صلاة العصر " . لأن الله تعالى عرف " الصلاة " في هذا الموضع بإدخال " الألف واللام " فيها ، ولا تدخلهما العرب إلا في معروف ، إما في جنس ، أو في واحد معهود معروف عند المتخاطبين . فإذا كان كذلك ، وكانت " الصلاة " في هذا الموضع مجمعا على أنه لم يعن بها جميع الصلوات ، لم يجز أن يكون مرادا بها صلاة المستحلف من اليهود والنصارى ، لأن لهم صلوات ليست واحدة ، فيكون معلوم أنها المعنية بذلك . فإذ كان ذلك كذلك ، صح أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 177 ] صحيحا عنه أنه إذ لاعن بين العجلانيين ، لاعن بينهما بعد العصر دون غيره من الصلوات كان معلوما أن التي عنيت بقوله : " تحبسونهما من بعد الصلاة " هي الصلاة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخيرها لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه . هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت ، وذلك لقربه من غروب الشمس .

وكان ابن زيد يقول في قوله : " لا نشتري به ثمنا " ما : -

12955 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " لا نشتري به ثمنا " قال : نأخذ به رشوة .

التالي السابق


الخدمات العلمية