الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين ( 108 ) )

قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - : وخافوا الله ، أيها الناس ، وراقبوه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبة ، وأن تذهبوا بها مال من يحرم عليكم ماله ، وأن تخونوا من اتمنكم " واسمعوا " يقول : اسمعوا ما يقال لكم وما توعظون به ، فاعملوا به ، وانتهوا إليه " والله لا يهدي القوم الفاسقين " يقول : والله لا يوفق من فسق عن أمر ربه ، فخالفه وأطاع الشيطان وعصى ربه .

وكان ابن زيد يقول : " الفاسق " في هذا الموضع ، هو الكاذب .

12983 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : " والله لا يهدي القوم الفاسقين " الكاذبين ، يحلفون على الكذب . [ ص: 207 ]

وليس الذي قال ابن زيد من ذلك عندي بمدفوع ، إلا أن الله - تعالى ذكره - عم الخبر بأنه لا يهدي جميع الفساق ، ولم يخصص منهم بعضا دون بعض بخبر ولا عقل ، فذلك على معاني " الفسق " كلها ، حتى يخصص شيئا منها ما يجب التسليم له ، فيسلم له .

ثم اختلف أهل العلم في حكم هاتين الآيتين ، هل هو منسوخ ، أو هو محكم ثابت؟

فقال بعضهم : هو منسوخ

ذكر من قال ذلك :

12984 - حدثنا أبو كريب قال : ثنا ابن إدريس ، عن رجل قد سماه ، عن حماد ، عن إبراهيم قال : هي منسوخة .

12985 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : هي منسوخة يعني هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " الآية .

وقال جماعة : هي محكمة وليست بمنسوخة . وقد ذكرنا قول أكثرهم فيما مضى .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن حكم الآية غير منسوخ وذلك أن من حكم الله - تعالى ذكره - الذي عليه أهل الإسلام ، من لدن بعث الله - تعالى ذكره - نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا ، أن من ادعي عليه [ ص: 208 ] دعوى مما يملكه بنو آدم ، أن المدعى عليه لا يبرئه مما ادعي عليه إلا اليمين ، إذا لم يكن للمدعي بينة تصحح دعواه وأنه إن اعترف في يد المدعى عليه سلعة له ، فادعى أنها له دون الذي في يده ، فقال الذي هي في يده : " بل هي لي ، اشتريتها من هذا المدعي " أن القول قول من زعم الذي هي في يده أنه اشتراها منه ، دون من هي في يده مع يمينه ، إذا لم يكن للذي هي في يده بينة تحقق به دعواه الشراء منه .

فإذ كان ذلك حكم الله الذي لا خلاف فيه بين أهل العلم ، وكانت الآيتان اللتان ذكر الله - تعالى ذكره - فيهما أمر وصية الموصي إلى عدلين من المسلمين ، أو إلى آخرين من غيرهم ، إنما ألزم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيما ذكر عنه ، الوصيين اليمين حين ادعى عليهما الورثة ما ادعوا ، ثم لم يلزم المدعى عليهما شيئا إذ حلفا ، حتى اعترفت الورثة في أيديهما ما اعترفوا من الجام أو الإبريق أو غير ذلك من أموالهم ، فزعما أنهما اشترياه من ميتهم ، فحينئذ ألزم النبي - صلى الله عليه وسلم - ورثة الميت اليمين ، لأن الوصيين تحولا مدعيين بدعواهما ما وجدا في أيديهما من مال الميت أنه لهما ، اشتريا ذلك منه ، فصارا مقرين بالمال للميت ، مدعيين منه الشراء ، فاحتاجا حينئذ إلى بينة تصحح دعواهما ، وصارت ورثة الميت رب السلعة ، أولى باليمين منهما . فذلك قوله - تعالى ذكره - : " فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما " الآية . [ ص: 209 ]

فإذ كان تأويل ذلك كذلك ، فلا وجه لدعوى مدع أن هذه الآية منسوخة ، لأنه غير جائز أن يقضى على حكم من أحكام الله - تعالى ذكره - أنه منسوخ ، إلا بخبر يقطع العذر : إما من عند الله ، أو من عند رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، أو بورود النقل المستفيض بذلك . فأما ولا خبر بذلك ، ولا يدفع صحته عقل ، فغير جائز أن يقضى عليه بأنه منسوخ .

التالي السابق


الخدمات العلمية