الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فيقال له عن هذا أجوبة:

[ ص: 231 ] أحدها: أن يقال: كل ما لا يتوقف على غير شيء إذا وجد ذلك الشيء وجب أن يوجد، إلى قوله: وما كان من نور الأنوار فلا يتوقف على غيره. إلى آخره.

ما تعني بقولك: ما كان من نور الأنوار؟ تعني: الله، فلا يتوقف على غيره؟ أتعني به: أنه لا يتوقف على شيء منفصل عن الله؟ أم تعني به: لا يتوقف على فعل قائم بذات الرب يفعله بمشيئته وقدرته؟

أما الأول: فلا ينفعك؛ لأنه لا يلزم من كونه لا يتوقف على شيء منفصل عن الله، أن لا يتوقف على فعله الواقع بمشيئته وقدرته، وحينئذ فلا يلزم قدمه، بل إذا كان الفعل المراد المقدور حادثا، فالمعلق به أولى أن يكون حادثا، فإنه لا يكون قبله، وما لا يسبق الحوادث يجب أن يكون حادثا.

وإن قلت: إنه لا يتوقف على فعل الرب القائم بنفسه، فهذا محل النزاع. وأنت لم تذكر دليلا على أن وجود الممكنات لا يتوقف على فعل الرب القائم بنفسه، بل الدليل يوجب توقف المعقولات على فعل الفاعل، وتوقف المعلول على اقتضاء العلة، والعلة شيء، واقتضاؤها المعلول شيء. وإذا كانت العلة مشروطة بما يقوم بها بالمشيئة والقدرة، لم يحصل المشروط قبل الشرط، وأنت لم تقم دليلا إلى ثبوت علة مجردة خالية عن شرط، بل الدليل ينفي ذلك لأنه يلزم من قدم هذه العلة قدم معلولها، ومعلول معلولها، فإن العلة التامة لا يتأخر عنها شيء من معلولها، وحينئذ فلا يكون للحوادث فاعل أصلا، وهذا من أبين الأمور المعلوم فسادها بالضرورة. [ ص: 232 ]

الوجه الثاني: أن يقال: ما سوى الله هل يتوقف شيء منه على غيره، أم لا؟

فإن قلت بالثاني، لزم قدم جميع الممكنات الموجودة، حتى الحوادث، وهو مكابرة. وإن توقف منه شيء على غيره بطل قولك: ما سوى نور الأنوار لا يتوقف على غيره.

وإيضاح ذلك:

بالوجه الثالث: وهو أن يقال: إذا قدر الغير الذي هو شرط، هو من الله أيضا، وتوقف أحد الفعلين على الآخر لم يكن في ذلك محذور. فإن الله جعل بعض الأشياء شرطا في وجود بعض، غاية ما في هذا أن يقال: هذا يقتضي التسلسل. فيقال: وهذا عندك جائز، فلا يتعين قدم شيء من الأفلاك ولا غيرها.

الرابع: أن يقال: إن كان التسلسل باطلا بطل مذهبك، وإن كان جائزا بطلت حجتك.

الخامس: أن يقال: أنت وقد أوجبت التسلسل في الحوادث بإيجاب حركة دائمة لا تنقطع، وقلت أيضا: فلما كان نور الأنوار وجميع ما يفرضه الصفاتية صفة دائمة، فيدوم بدوامه ما منه لعدم توقفه على أمر منتظر.

وإذا كان قولك وقول إخوانك يتضمن هذا وهذا، فيقال لكم: الحركة الدائمة إما أن تكون منه بواسطة أو بغير واسطة، وإما أن لا تكون منه، فإن لم تكن منه لزم حدوث الحوادث بدون واجب الوجود، وهذا هو القول بحدوث الحوادث بلا محدث، وإن كانت الحركة منه بواسطة أو بغير واسطة، وهو قولهم. [ ص: 233 ]

فيقال: فحينئذ قد كان منه ما لا يدوم بدوامه، فإن كل جزء من أجزاء الحركة حادث، وعندكم أنه حدث عن تصور حادث وشوق حادث، فهذه أمور من واجب الوجود وليست دائمة بدوامه، فهذا ينقض قولكم: إن كل ما منه يدوم بدوامه.

ثم أيضا من المعلوم أن كل واحد من الحوادث منه بواسطة أو غير واسطة، وهو كان بعد أن لم يكن، ويعدم بعد أن كان فهو منه، وليس مقارنا له، ولا دائما بدوامه. فعلم بذلك أنه لا يجب في كل ما كان منه أن يدوم بدوامه، فلا يجب في الفلك وغيره من الأعيان المشهودة أن تدوم بدوامه، وهو المطلوب.

وإذا قال: الذي يدوم بدوامه هو جنس الأفعال والمفعولات أو جنس الحوادث شيء بعينه.

قيل: فهذا يبطل حجتك على قدم شيء بعينه، ويناقض مذهبك في قدم شيء بعينه.

التالي السابق


الخدمات العلمية