الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 543 ] ثم دخلت سنة ثلاث وأربعمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      في سادس عشر المحرم قلد الشريف الرضي أبو الحسن الموسوي نقابة الطالبيين في سائر المماليك ، وقرئ تقليده في دار الوزير فخر الملك ، بمحضر القضاة والأعيان ، وخلع عليه السواد ، وهو أول طالبي خلع عليه السواد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها جيء بأمير بني خفاجة أبي فليتة ، قبحه الله ، وجماعة من رءوس قومه أسارى ، وكانوا قد اعترضوا الحجيج في السنة الماضية وهم راجعون ، وغوروا المناهل التي يردها الحجاج ، ووضعوا فيها الحنظل ، بحيث إنه مات من العطش نحو من خمسة عشر ألفا ، وأخذوا بقيتهم ، فجعلوهم رعاة لمواشيهم في أسوإ حال ، وأخذوا جميع ما كان معهم من الأحمال والجمال ، فحين أحضرهم الوزير فخر الملك سجنهم ومنعهم الماء ، ثم صلبهم تلقاء دجلة يرون صفاء الماء ، ولا يقدرون على شيء منه ، حتى ماتوا كذلك جزاء وفاقا ، ولقد أحسن فخر الملك في هذا الصنيع واقتدى بحديث أنس في الرعاء الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، والحديث في " الصحيحين " . ثم بعث إلى أولئك الذين اعتقلوا في بلاد بني خفاجة من الحجاج فجيء بهم ، وقد تزوجت نساؤهم ، وقسمت [ ص: 544 ] أموالهم ، فردوا إلى أهاليهم وأموالهم . ولله الحمد والمنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الجوزي : وفي رمضان انقض كوكب من المشرق إلى المغرب ، غلب ضوءه على ضوء القمر ، وتقطع قطعا ، وبقي ساعة طويلة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : وفي شوال توفيت زوجة بعض رؤساء النصارى ، فخرجت النوائح والصلب معها جهرة ، فأنكر ذلك بعض الهاشميين ، فضربه بعض غلمان ذلك الرئيس النصراني بدبوس في رأسه فشجه ، فثار المسلمون بهم ، فانهزموا ولجئوا إلى كنيسة لهم هناك ، فدخلت العامة إليها فنهبوا ما فيها وما قرب منها من دور النصارى ، وتتبعوا النصارى في البلد ، وقصدوا دار المناصح وابن أبي إسرائيل ، فقاتلهم غلمانهم ، وانتشرت الفتنة ببغداد ، ورفع المسلمون المصاحف في الأسواق ، وعطلت الجمعة في بعض الأيام ، واستعانوا بالخليفة ، فأمر بإحضارابن أبي إسرائيل فامتنع ، فعزم الخليفة على الخروج من بغداد وقويت الفتنة جدا ، ونهبت دور كثيرة من النصارى ، ثم أحضر ابن أبي إسرائيل ، فبذل أموالا جزيلة ، فعفي عنه ، وسكنت الفتنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ذي القعدة ورد كتاب من يمين الدولة محمود بن سبكتكين إلى الخليفة يذكر أنه ورد إليه رسول من الحاكم صاحب مصر ، يدعوه إلى طاعته ، فبصق فيه وأمر بتحريقه ، وأسمع رسوله غليظ ما يقال .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها قلد أبو نصر بن مروان الكردي إمرة آمد وميافارقين وديار بكر ، وخلع [ ص: 545 ] عليه بطوق وسوار ، ولقب نصير الدولة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولم يتمكن ركب العراق وخراسان في هذه السنة من الذهاب إلى الحج لفساد الطريق ، وغيبة فخر الملك في إصلاح الأراضي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة عادت مملكة الأمويين بالأندلس ، فتولى فيها سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر الأموي ، ولقب بالمستعين بالله ، وبايعه الناس بقرطبة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها مات بهاء الدولة أبو نصر فيروز بن عضد الدولة بن بويه الديلمي ، صاحب بغداد والعراق ، وقام بالأمر من بعده ولده سلطان الدولة أبو شجاع .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها مات ملك الترك الأعظم إيلك خان ، فولي أمرهم من بعده أخوه طغان خان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها هلك شمس المعالي قابوس بن وشمكير ; أدخل بيتا باردا في الشتاء ، وليس عليه شيء من اللباس حتى مات كذلك ، وولي الأمر من بعده ولده منوجهر ، ولقب فلك المعالي ، وخطب لمحمود بن سبكتكين ، وقد كان شمس المعالي قابوس عالما فاضلا أديبا شاعرا ، فمن شعره قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قل للذي بصروف الدهر عيرنا هل عاند الدهر إلا من له خطر     أما ترى البحر يطفو فوقه جيف
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ويستقر بأقصى قعره الدرر     فإن تكن نشبت أيدي الخطوب بنا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومسنا من توالي صرفها ضرر     ففي السماء نجوم غير ذي عدد
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وليس يكسف إلا الشمس والقمر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 546 ] ومن شعره المستجاد قوله


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      خطرات ذكرك تستثير مودتي     فأحس منها في الفؤاد دبيبا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لا عضو لي إلا وفيه صبابة     فكأن أعضائي خلقن قلوبا



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية