الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 4060 ] (سورة الحجر)

                                                          تمهيد:

                                                          أول الجزء الرابع عشر، وأوله سورة الحجر، وهي سورة مكية إلا ما قيل: إنه يستثنى مكيته وهي الآية السابعة والثمانون، وعدد آياتها [99].

                                                          وقد ابتدئت بالحروف المفردة الر وذكر بعدها القرآن الكريم تلك آيات الكتاب وقرآن مبين وقد أخبر سبحانه أنه ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ولكن غلب عليهم الهوى، ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون وإن بين أيديهم العبر وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ومن لهوهم وعبثهم قولهم لنبيهم: وقالوا يا أيها الذي نـزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين وإن الملائكة لا تنزل، وإذا نزلوا لا يؤجلهم ما ننـزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين وذلك شأن الكافرين يتوارثون ذلك الفكر السقيم جيلا بعد جيل، وإن القرآن باق إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين

                                                          وإن الآيات لا تخزيهم؛ لأن قلوبهم أغلقت عن الحق ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون

                                                          بعد ذلك أخذ ينبههم سبحانه إلى خلق السماوات والأرض وما فيها من عجيب التكوين [ ص: 4061 ] ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين وبعد هذا الخلق، وذاك التكوين كان كل شيء في السماوات والأرض بأمر الله وفي قبضة يده وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننـزله إلا بقدر معلوم وأرسلنا الرياح لواقح فأنـزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين

                                                          وإن الله تعالى ترى آثاره في خلقه من إماتة وإحياء وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون وإذا كنتم ترون بالعيان الإحياء والإماتة فقد كان ذلك فيمن تقدم، وفيمن تأخر، ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم

                                                          بعد ذلك أخذ سبحانه يذكر في هذه السورة خلق الإنسان من طين فقال: ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم

                                                          بعد ذلك أشار سبحانه إلى خلق آدم وسجود الملائكة له وامتناع إبليس أن يكون من الساجدين، وغروره بأنه من نار وآدم من طين، وقد طرده الله سبحانه من جنته وقال له: وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين وأنظره الله إلى يوم يبعثون قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين

                                                          بعد ذلك ذكر تعالت كلماته جزاء الذين يغويهم إبليس وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم وذكر بعد هذا جزاء الذين لم يطيعوا الشيطان ولم يستطع إغواءهم [ ص: 4062 ] إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين ونـزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم

                                                          بعد ذلك جاءت العبر في القرآن الكريم، وابتدأت العبر بمن هو أقرب إلى العرب نسبا، ويعيشون في رحاب بيت الله الذي بناه إبراهيم، فقال في قصة إبراهيم: ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما ولأنهم ملائكة، لم يعهد في الأرض لقاء مثلهم - وجل منهم، وقال: إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون

                                                          هذا تذكير بالخلق والتكوين، وأنه يجري على حكم إرادة الله تعالى الفاعل المختار، لا بالأسباب والمسببات، كما يقول الجاهلون، وإن الأسباب لا تسيطر على فعل الله تعالى، فالأسباب تجعل الرجل لا ينجب وهو كبير، فلم ينجب وهو شاب، ولكن بإرادة الله ينجب إبراهيم، وامرأته عجوز عاقر.

                                                          بعد هذا ذكر القرآن الكريم ما يكون تهديدا للفاسقين الخارجين عن أمر الله تعالى، وهم قوم لوط، قالت رسل الله تعالى لإبراهيم: قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين

                                                          [ ص: 4063 ] أنزل بهم العذاب الأليم في الدنيا، أخذتهم الصيحة في الصباح فجعل الله تعالى عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين

                                                          بعد هذا يرينا الله تعالى من عجائب قدرته ليعتبر العرب في قصة أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر، وتكذيبهم الرسل فأخذتهم الصيحة مصبحين فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون

                                                          ولقد أخذ سبحانه وتعالى يشير إلى العبر في تكوين هذا الوجود، وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل

                                                          وإذا كان خلق الله السماوات والأرض وما فيه من نعم للكافة، فقد أعطاك الله نعمة القرآن: ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ولا تلتفت إلى ما عند غيرك، فما عندك هو الأعظم وهو الجليل: لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين وقل إني أنا النذير المبين كما أنـزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون

                                                          ولقد أمر الله نبيه بأن يصدع بما يؤمر به فقال: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية