الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 252 ] فصل

ومنشأ ضلال هاتين الطائفتين هو نفي صفات الله وأفعاله القائمة بنفسه.

فإنهم لما نفوا ذلك، ثم أرادوا إثبات صدور الممكنات عنه، مع ما يشاهدون من حدوثها، لم يبق هناك ما يصلح أن يكون هو المرجح لوجود الممكنات -إلا لما شوهد حدوثه منها- ولا لغير ذلك.

وصارت المتفلسفة تحتج على هؤلاء المتكلمة بالحجج التي توجب تناقض قولهم، فيجيبوهم بما يتضمن الترجيح بلا مرجح، مثل إسنادهم الترجيح إلى القدرة أو الإرادة القديمة، التي لا اختصاص لها بوقت دون وقت.

فيقول لهم أولئك: إسناد التخصيص والترجيح إلى مرجح، لا فرق بالنسبة إليه بين وقت دون وقت، وبين مفعول ومفعول، كإسناد التخصيص والترجيح إلى ترجح الذات المجردة عن الصفات.

لكن كل ما تحتج به المتفلسفة يلزمهم نظيره، وما هو أشد فسادا منه، فإن قولهم أعظم تناقضا من قول هؤلاء المتكلمين، وما من محذور يلزم أولئك، إلا ويلزم المتفلسفة ما هو مثله أو أعظم منه. فإنهم يسندون وجود الممكنات المختلفات، كالأفلاك والعناصر وما يسمونه العقول والنفوس، مع ما يتعاقب على ذلك من الحوادث المختلفات أيضا، إلى ذات مجردة بسيطة لا صفة لها ولا فعل، ويقولون: إنها لم تزل ولا تزال مجردة عن الصفات والأفعال، وهي مع ذلك لا تزال تصدر عنها الأمور المختلفة والمحدثات المختلفة المتعاقبة. [ ص: 253 ]

وهذا مما يظهر فيه من الفساد والتناقض أعظم مما يظهر في قول أولئك. وإذا دفعوا ذلك بما يجعلونه صادرا عن الأول من اللازم لذاته، كالعقل الأول ولوازمه، لم يكن هذا دافعا لما يلزم قولهم من الفساد. فإن ما كان لازما لذاته مع وحدته، يقال فيه ما يقال فيه من امتناع صدور الأمور المختلفة والحوادث الدائمة عنه، ولهذا ينتهون إلى إثبات العقل الفعال، ويقولون: إنه صدر عنه فلك القمر ونفسه، والعناصر التي تحته، مع اختلاف أنواعها وصفاتها وأقدارها، وهو في نفسه بسيط، ثم يقولون: إنه بسبب حركات الأفلاك حصلت استعدادات مختلفة لما يفيض منه.

والكلام في تلك الحركات المختلفة كالكلام في غيرها، فلا بد لهم من إسناد الأمور المختلفة الأنواع والأقدار والصفات، والحوادث المختلفة الأنواع والأقدار والصفات، إلى ذات بسيطة مجردة عن كل صفة وفعل يقوم بها، مستلزمة لكل ما يصدر عنها، وهذا فيه من التناقض والفساد أضعاف ما في قول أولئك.

ومن سلم من الفلاسفة أن الرب تقوم به الصفات والأفعال الاختيارية، فهؤلاء حدوث كل ما سوى الله على قولهم أظهر، وقدم شيء من العالم على قولهم أبعد.

ولهذا كان القائلون بهذا الأصل من الأساطين لا يعرف عنهم القول بقدم صورة الأفلاك؛ إذ أول من عرف عنه القول بقدم صورة الأفلاك هو [ ص: 254 ] أرسطو، لكن يحكى عن بعضهم القول بقدم المادة، وقد يريدون قدم جنسه لا قدم شيء معين، ومنهم من يقول بقدم شيء معين.

وأما أبو البركات فإنه من المثبتين للصفات والأفعال القائمة بذاته، وهو لم يقم حجة على قدم شيء من العالم، وإنما أبطل قول من قال بأنه فعل بعد أن لم يفعل.

والذي تقتضيه حججه العقلية الصحيحة وحجج سائر العقلاء، إنما هو موافق لما أخبرت به الرسل لا مخالف لها. وكأن القول الوسط لم يعرفه، كما لم يعرفه الرازي وأمثاله. ولو عرفوه لكان هو المتصور عندهم دون غيره، وإنما استطال ابن سينا، وأمثاله من الفلاسفة الدهرية، على أولئك بما وافقوهم عليه من نفي الصفات. ولهذا تجد ابن سينا يذكر قول إخوانه وقول أولئك المتكلمين فقط.

ومعلوم أن فساد أحد القولين لا يستلزم صحة القول الآخر، إلا أن تنحصر القسمة فيهما. فأما إذا أمكن أن يكون هناك قول ثالث هو الحق، لم يلزم من فساد أحد القولين صحة القول الآخر. وهذا مضمون ما ذكره في كتبه كلها، وما ذكره سائر هؤلاء الفلاسفة.

التالي السابق


الخدمات العلمية