الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 516 ] سورة الماعون وهي سبع آيات

بسم الله الرحمن الرحيم

( أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون )

سها عن كذا يسهو سهوا : لها عنه وتركه عن غفلة ، الماعون : فاعول من المعن ، وهو الشيء القليل ، تقول العرب : ما له معن ، أي شيء قليل ، وقاله قطرب ، وقيل : أصله معونة والألف عوض من الهاء ، فوزنه مفعل في الأصل على مكرم ، فتكون الميم زائدة ، ووزنه بعد زيادة الألف عوضا مافعل ، وقيل : هو اسم مفعول من أعان يعين ، جاء على زنة مفعول ، قلب فصارت عينه مكان الفاء فصار موعون ، ثم قلبت الواو ألفا ، كما قالوا في بوب باب فصار ماعونا ، فوزنه على هذا مفعول ، وقال أبو عبيدة ، والزجاج ، والمبرد : الماعون في الجاهلية : كل ما فيه منفعة حتى الفاس والدلو والقدر والقداحة ، وكل ما فيه منفعة من قليل أو كثير ، وأنشدوا بيت الأعشى :


بأجود منه بماعونه إذا ما سماؤهم لم تغم



وقالوا : المراد به في الإسلام الطاعة ، وتأتي أقوال أهل التفسير فيه إن شاء الله تعالى عز وجل ( أرءيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون ) هذه السورة مكية في قول الجمهور ، مدنية في قول ابن عباس وقتادة ، قال هبة الله المفسر الضرير : نزل نصفها بمكة في العاصي بن وائل ، ونصفها بالمدينة في عبد الله بن أبي المنافق ، ولما عدد تعالى نعمه على قريش ، وكانوا لا يؤمنون بالبعث والجزاء ، أتبع امتنانه عليهم بتهديدهم بالجزاء وتخويفهم من عذابه ، ونزلت في أبي جهل ، أو الوليد بن المغيرة ، أو العاصي بن وائل ، أو عمر بن عائذ ، أو رجلين من المنافقين ، أو أبي سفيان بن حرب ، كان ينحر في كل أسبوع جزورا ، فأتاه يتيم فسأله شيئا فقرعه بعصا ، أقوال آخرها لابن جريج ، والظاهر أن ( أرأيت ) هي التي بمعنى أخبرني ، فتتعدى لاثنين ، أحدهما الذي ، والآخر محذوف ، فقدره الحوفي : أليس مستحقا عذاب الله ، وقدره الزمخشري : من هو ، ويدل على أنها بمعنى أخبرني ، قراءة [ ص: 517 ] عبد الله أرأيتك بكاف الخطاب ، لأن كاف الخطاب لا تلحق البصرية ، قال الحوفي : ويجوز أن تكون من رؤية البصر ، فلا يكون في الكلام حذف ، وهمزة الاستفهام تدل على التقرير والتفهيم ليتذكر السامع من يعرفه بهذه الصفة .

والدين : الجزاء بالثواب والعقاب ، وقال الزمخشري : والمعنى هل عرفت الذي يكذب بالجزاء ؟ هو الذي ( يدع اليتيم ) أي يدفعه دفعا عنيفا بجفوة أو أذى ( ولا يحض ) أي ولا يبعث أهله على بذل الطعام للمسكين ، جعل علم التكذيب بالجزاء منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف . انتهى . وقرأ الجمهور : ( يدع ) بضم الدال وشد العين ، وعلي والحسن وأبو رجاء واليماني : بفتح الدال وخف العين ، أي يتركه بمعنى لا يحسن إليه ويجفوه ، وقرأ الجمهور : ( ولا يحض ) مضارع حض ، وزيد بن علي : ( يحاض ) مضارع حاضضت . وقال ابن عباس : ( بالدين ) بحكم الله ، وقال مجاهد : بالحساب ، وقيل : بالجزاء ، وقيل : بالقرآن ، وقال إبراهيم بن عرفة : ( يدع اليتيم ) يدفعه عن حقه ، وقال مجاهد : يدفعه عن حقه ولا يطعمه ، وفي قوله : ( ولا يحض ) إشارة إلى أنه هو لا يطعم إذا قدره ، وهذا من باب الأولى ؛ لأنه إذا لم يحض غيره بخلا ، فلأن يترك هو ذلك فعلا أولى وأحرى ، وفي إضافة طعام إلى المسكين دليل على أنه يستحقه .

ولما ذكر أولا عمود الكفر ، وهو التكذيب بالدين ، ذكر ما يترتب عليه مما يتعلق بالخالق ، وهو عبادته بالصلاة ، فقال : ( فويل للمصلين ) والظاهر أن المصلين هم غير المذكور ، وقيل : هو داع اليتيم غير الحاض ، وأن كلا من الأوصاف الذميمة ناشئ عن التكذيب بالدين ، فالمصلون هنا ، والله أعلم ، هم المنافقون ، ثبت لهم الصلاة ، وهي الهيئات التي يفعلونها ، ثم قال : ( الذين هم عن صلاتهم ساهون ) نظرا إلى أنهم لا يوقعونها ، كما يوقعها المسلم من اعتقاد وجوبها والتقرب بها إلى الله تعالى ، وفي الحديث عن صلاتهم ساهون : ( يؤخرونها عن وقتها تهاونا بها ) . قال مجاهد : تأخير ترك وإهمال . وقال إبراهيم : هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا ملتفتا . وقال قتادة : هو الترك لها ، أو هم الغافلون الذين لا يبالي أحدهم أصلى أم لم يصل . وقال قطرب : هو الذي لا يقر ولا يذكر الله تعالى . وقال ابن عباس : المنافقون يتركون الصلاة سرا ويفعلونها علانية ( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ) ويدل على أنها في المنافقين . قوله تعالى : ( الذين هم يراءون ) وقاله ابن وهب عن مالك ، قال ابن عباس : ولو قال في صلاتهم لكانت في المؤمنين . وقال عطاء : الحمد لله الذي قال عن صلاتهم ولم يقل في صلاتهم . وقال الزمخشري : بعد أن قدم فيما نقلناه من كلامه ما يدل على أن ( فذلك الذي يدع ) في موضع رفع ، قال : وطريقة أخرى أن يكون ( فذلك ) عطفا على ( الذي يكذب ) ، إما عطف ذات على ذات ، أو عطف صفة على صفة ، ويكون جواب ( أرأيت ) محذوفا لدلالة ما بعده عليه ، كأن قال : أخبرني وما تقول فيمن يكذب بالجزاء ، وفيمن يؤذي اليتيم ولا يطعم المسكين ، أنعم ما يصنع ؟ ثم قال : ( فويل للمصلين ) أي إذا علم أنه مسيء ( فويل للمصلين ) على معنى : فويل لهم إلا أنه وضع صفتهم موضع [ ص: 518 ] ضميرهم ؛ لأنهم كانوا مع التكذيب ، وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين غير مزكين أموالهم ، فإن قلت : كيف جعلت المصلين قائما مقام ضمير ( الذي يكذب ) وهو واحد ؟ قلت : معناه الجمع ، لأن المراد به الجنس . انتهى . فجعل ( فذلك ) في موضع نصب عطفا على المفعول ، وهو تركيب غريب ، كقولك : أكرمت الذي يزورنا فذلك الذي يحسن إلينا ، فالمتبادر إلى الذهن أن ( فذلك ) مرفوع بالابتداء ، وعلى تقدير النصب يكون التقدير : أكرمت الذي يزورنا فأكرمت ذلك الذي يحسن إلينا ، فاسم الإشارة في هذا التقدير غير متمكن تمكن ما هو فصيح ، إذ لا حاجة إلى أن يشار إلى الذي يزورنا ، بل الفصيح أكرمت الذي يزورنا فالذي يحسن إلينا ، أو أكرمت الذي يزورنا فيحسن إلينا ، وأما قوله : إما عطف ذات على ذات فلا يصح ؛ لأن ( فذلك ) إشارة إلى ( الذي يكذب ) ، فليسا بذاتين ؛ لأن المشار إليه بقوله : ( فذلك ) هو واحد ، وأما قوله : ويكون جواب ( أرأيت ) محذوفا ، فلا يسمى جوابا ، بل هو في موضع المفعول الثاني لأرأيت ، وأما قوله : أنعم ما يصنع ؟ فهمزة الاستفهام لا نعلم دخولها على نعم ولا بئس ؛ لأنهما إنشاء ، والاستفهام لا يدخل إلا على الخبر ، وأما وضعه ( المصلين ) موضع الضمير ، وأن المصلين جمع ؛ لأن ضمير الذي يكذب معناه الجمع ، فتكلف واضح ولا ينبغي أن يحمل القرآن إلا على ما اقتضاه ظاهر التركيب ، وهكذا عادة هذا الرجل يتكلف أشياء في فهم القرآن ليست بواضحة .

وتقدم الكلام في الرياء في سورة البقرة ، وقرأ الجمهور : ( يراءون ) مضارع رآى ، على وزن فاعل ، وابن أبي إسحاق والأشهب : مهموزة مقصورة مشددة الهمزة ، وعن ابن أبي إسحاق : بغير شد في الهمزة ، فتوجيه الأولى إلى أنه ضعف الهمزة تعدية ، كما عدوا بالهمزة فقالوا في رأى : أرى ، فقالوا : رآى ، فجاء المضارع يرإي كيصلي ، وجاء الجمع يروون كيصلون ، وتوجيه الثانية أنه استثقل التضعيف في الهمزة فخففها ، أو حذف الألف من يراءون حذفا لا لسبب . ( ويمنعون الماعون ) قال ابن المسيب وابن شهاب : الماعون ، بلغة قريش : المال . وقال الفراء عن بعض العرب : الماعون : الماء . وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن الحنفية ، والحسن ، والضحاك ، وابن زيد : ما يتعاطاه الناس بينهم ، كالفأس والدلو والآنية . وفي الحديث : سئل صلى الله عليه وسلم عن الشيء الذي لا يحل منعه فقال : الماء والملح والنار . وفي بعض الطرق : الإبرة والخمير . وقال علي وابن عمر وابن عباس أيضا : الماعون : الزكاة ، ومنه قول الراعي :


أخليفة الرحمن إنا معشر     حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله من أموالنا     حق الزكاة منزلا تنزيلا
قوم على الإسلام لما يمنعوا     ماعونهم ويضيعوا التهليلا



يعني بالماعون الزكاة ، وهذا القول يناسبهما ، ذكره قطرب من أن أصله من المعن ، وهو الشيء القليل ، فسميت الزكاة ماعونا ؛ لأنها قليل من كثير ، وكذلك الصدقة غيرها ، وقال ابن عباس : هو العارية ، وقال محمد بن كعب والكلبي : هو المعروف كله ، وقال عبد الله بن عمر : منع الحق ، وقيل : الماء والكلأ .

التالي السابق


الخدمات العلمية