الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1684 - مسألة : وكل مملوكة حملت من سيدها فأسقطت شيئا يدرى أنه ولد ، أو ولدته : فقد حرم بيعها وهبتها ورهنها والصدقة بها وقرضها ، ولسيدها وطؤها واستخدامها مدة حياته ، فإذا مات فهي حرة من رأس ماله ، وكل مالها فلها إذا عتقت ، ولسيدها انتزاعه في حياته ، فإن ولدت من غير سيدها بزنا ، أو إكراه ، أو نكاح بجهل : فولدها بمنزلتها إذا أعتقت عتقوا . قال أبو محمد : اختلف الناس في هذا . فروينا من طريق سعد بن منصور نا أبو عوانة عن المغيرة عن الشعبي عن عبيدة السلماني قال : خطب علي الناس ، فقال : شاورني عمر بن الخطاب في أمهات الأولاد ، فرأيت أنا وعمر أن أعتقهن - فقضى به عمر حياته ، وعثمان حياته ، فلما وليت رأيت أن أرقهن ، قال عبيدة : فرأي عمر ، وعلي في الجماعة أحب إلي من رأي علي وحده . قال أبو محمد : إن كان أحب إلى عبيدة ، فلم يكن أحب إلى علي بن أبي طالب ، وإن بين الرجلين لبونا بائنا ، فأين المحتجون بقول الصاحب المشتهر المنتشر وأنه إجماع ، أفيكون اشتهارا أعظم ، وانتشارا أكثر من حكم عمر باقي خلافته ، وعثمان جميع خلافته ، في أمر فاش عام ، ظاهر مطبق ، وعلي موافق لهما على ذلك

                                                                                                                                                                                          [ ص: 213 ] وقد روينا عن وكيع نا سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن زيد بن وهب قال : باع عمر أمهات الأولاد ثم ردهن حتى ردهن حبالى من تستر - فلا سبيل إلى أن يفشو حكم أكثر من هذا الفشو بمثل هذا الحكم المعلن والأسانيد المثيرة ، ثم لم ير علي بن أبي طالب ذلك إجماعا ، بل خالفه فإن كان ذلك إجماعا فعلى أصول هؤلاء الجهال قد خالف علي الإجماع . وحاشا له من ذلك ، فمخالف الإجماع عالما بأنه إجماع كافر ، ثم لا يستحبون دعوى الإجماع على ما لم يصح قط عن عمر من أنه فرض في الخمر ثمانين حدا والخلاف فيه من عمر وممن بعد عمر أشهر من الشمس . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : { كنا نبيع أمهات الأولاد - ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حي فينا - لا نرى بذلك بأسا } . قال ابن جريج : وأخبرني عبد الرحمن بن الوليد أن أبا إسحاق السبيعي أخبره أن أبا بكر الصديق كان يبيع أمهات الأولاد في إمارته وعمر في نصف إمارته ، وذكر الحديث . قال ابن جريج : وأخبرني عطاء أنه بلغه أن علي بن أبي طالب كتب في عهده : إني تركت تسع عشرة سرية فأيتهن ما كانت ذات ولد قومت في حصة ولدها بميراثه مني وأيتهن لم تكن ذات ولد فهي حرة ؟ فسألت محمد بن علي بن الحسين بن علي : أذلك في عهد علي ؟ قال : نعم . ومن طريق الخشني محمد بن عبد السلام نا محمد بن بشار بندار نا محمد بن جعفر غندر نا شعبة عن الحكم بن عتيبة عن زيد بن وهب قال : انطلقت إلى عمر بن الخطاب أسأله عن أم الولد ؟ قال : مالك ، إن شئت بعت وإن شئت وهبت . ثم انطلقت إلى ابن مسعود فإذا معه رجلان فسألاه ؟ فقال لأحدهما من أقرأك ؟ قال : أقرأنيها أبو عمرة ، وأبو حكيم المزني ، وقال الآخر : أقرأنيها عمر بن الخطاب ، فبكى ابن مسعود وقال : أقرأكما ؟ أقرأك عمر ؟ فإنه كان حصنا حصينا يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه ؟ فلما أصيب عمر انثلم الحصن ، فخرج الناس من الإسلام قال زيد : وسألته عن أم الولد ؟ فقال : تعتق من نصيب ولدها .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 214 ] قال أبو محمد : هذا إسناد في غاية الصحة ، وبعد موت عمر كما ترى ، فأين مدعو الإجماع في أقل من هذا ؟ نعم ، وفيما لا خير فيه مما لا يصح

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج نا عطاء بن أبي رباح أن ابن الزبير أقام أم حيي أم ولد محمد بن صهيب يقال لابنها : خالد ، فأقامها ابن الزبير في مال ولدها وجعلها في نصيبه . قال عطاء : وقال ابن عباس : لا تعتق أم الولد حتى يلفظ سيدها بعتقها - وهو قول زيد بن ثابت . وبه يقول أبو سليمان ، وأبو بكر ، وجماعة من أصحابنا . وعن عمر قول آخر . رويناه من طريق ابن سيرين عن أبي العجفاء هرم بن نسيب ، ومالك بن عامر الهمداني ، كلاهما عن عمر بن الخطاب في أم الولد ؟ قال : إذا عفت وأسلمت عتقت ، وإن كفرت وفجرت أرقت . وروي هذا أيضا : عن عمر بن عبد العزيز أنه باع أم ولد ارتدت - وتوقف فيها أبو الحسن بن المغلس ، وبعض أصحابنا . وروي إبطال بيعها عن الشعبي ، والنخعي ، وعطاء ، ومجاهد ، والحسن ، وسالم بن عبد الله ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، والزهري ، وأبي الزناد ، وربيعة . وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، وسفيان ، والأوزاعي ، والحسن بن حي وابن شبرمة ، والشافعي ، وأبي عبيد ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي عبد الله بن سالار ، وطائفة من أصحابنا . قال أبو محمد : أما حديث جابر فلا حجة فيه وإن كان غاية في صحة السند ; لأنه ليس فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بذلك - ولقد كان يلزم من يرى مسندا قول أبي سعيد الخدري : { كنا نخرج - ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي - صدقة الفطر صاعا من طعام ، صاعا من شعير ، صاعا من تمر ، صاعا من أقط ، صاعا من زبيب } ، وقول ابن عمر : كنا ورسول [ ص: 215 ] الله صلى الله عليه وسلم حي نقول : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم نترك فلا نفاضل - ويرى هذا حجة . أن يرى قول جابر هذا حجة ، وإلا فهو متلاعب . قال أبو محمد : وأما من دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا حجة في أحد دونه عليه الصلاة والسلام فنظرنا : هل صح عنه عليه الصلاة والسلام في ذلك منع فنقف عنده ، وإلا فلا ؟ فوجدنا ما روينا من طريق قاسم بن أصبغ نا مصعب بن محمد نا عبيد الله بن عمر - هو الرقي - عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال { : لما ولدت مارية إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعتقها ولدها } فهذا خبر جيد السند كل رواته ثقة .

                                                                                                                                                                                          وسمعنا الله تعالى يقول : { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه } وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما روينا في المسألة السادسة في صدر " كتاب العتق " من ديواننا هذا : أن الإنسان يخلقه الله تعالى من مني أبيه ومني أمه ، فصح أنه بعضها وبعض أبيه .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق ابن أيمن نا عبد الله بن أحمد بن حنبل نا أبو سعيد مولى بني هاشم - هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبيد - نا همام بن يحيى عن قتادة عن أبي المليح عن أبيه - هو أبو أسامة بن عمير - قال : أعتق رجل من هذيل شقصا له من مملوك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم { هو حر كله ليس لله شريك } . ولما كان الولد بعض أبيه وبعض أمه ، وصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم { : من ملك ذا رحم محرمة فهو حر } فوجب أن يعتق على أبيه ، وأن لا يملكه أحد ، فلما وجب ذلك وجب أن بعضها حر ، وإذ بعضها حر فكلها حر . ولما لم يبن عليه الصلاة والسلام أم إبراهيم رضي الله عنها عن نفسه ولم يزل يستبيحها بعد الولادة صح أنها باقية على إباحة الوطء والتصرف ، قال الله تعالى { : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } . [ ص: 216 ] وصح أن العتق المذكور في أم الولد لا يمنع إلا من إخراجها عن الملك فقط ، وهذا برهان ضروري قاطع - ولله تعالى الحمد - إلا أنه لا يسوغ للحنفيين الاحتجاج به ; لأن من أصولهم الفاسدة : أن من روى خبرا ثم خالفه فهو دليل على سقوط ذلك الخبر - وابن عباس هو راوي خبر أم إبراهيم عليها السلام - وهو يرى بيع أمهات الأولاد . فقد ترك ما روى ، وما يثبت على أصولهم الفاسدة دليل على المنع من بيعهن ; لأن عليا ، وابن الزبير ، وابن عباس ، وابن مسعود بعد عمر : أباحوا بيعهن ، وكل ما موهوا به هاهنا فكذب ابتدعوه . وأما قولنا : إنها يحرم إخراجها عن ملكه إلى ملك غيره ، مما يدرى أنه ولد ، فإن النص من القرآن والسنة ورد بأنه أول ما يكون نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاما مكسوة لحما ، ثم ينفخ فيه الروح . والنطفة : اسم يقع على الماء ، فالنطفة ليست ولدا ، ولا فرق بين وقوع النطفة في الرحم وخروجها إثر ذلك ، وبين خروجها كذلك إلى أربعين يوما - ما دامت نطفة - فإذا خرجت عن أن تكون نطفة إلى أن تكون علقة ، فهي حينئذ ولد مخلق . وقال تعالى { : من مضغة مخلقة وغير مخلقة } فغير " المخلقة " هي التي لم تنتقل عن أن تكون نطفة ، ولا خلق منها ولد بعد ، " والمخلقة " هي المنتقلة عن اسم " النطفة " وحدها وصفتها إلى أن خلقها عز وجل " علقة " كما في القرآن ، فهي حينئذ ولد مخلق ، فهي بسقوطه أو ببقائه : أو ولد - وهذا نص بين - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما انتزاعه مالها - صحيحا كان أو مريضا - فلقول الله تعالى { : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } وأم الولد ليست زوجة بلا خلاف ، فهي ضرورة مما ملكت أيماننا ، فلنا أخذ ما ملكت أيماننا . فإن قيل : كيف تكون معتقة حرة مما ملكت أيماننا ؟ قلنا : كما نص الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام على ذلك ، لا كما اشتهت العقول الفاسدة ، والشارعة بآرائها الزائفة ، ولا علم لنا إلا ما علمنا ربنا عز وجل ، وقد قلتم : إن المكاتب لا عبد فيبتاع ويستخدم ، ولا توطأ المكاتبة ، وعبد في [ ص: 217 ] جميع أحكامه ، ولا حرة فتطلق ، وحرة في المنع من بيعها ووطئها ، فأي فرق بين ما قلتموه بآرائكم فجوزتموه ، فلما وجدتموه لله تعالى ولرسوله عليه الصلاة والسلام أنكرتموه ، ألا هذا هو الهوس المهلك في العاجلة والآجلة ؟

                                                                                                                                                                                          وأما ولدها من غير سيدها فهو كما قلنا في أول أمره بعضها ، فحكمه كحكمها ، وصح بما ذكرنا أنها لا يحرم بيعها إلا بأن تكون في حين أول حملها في ملك من لا يحل له تملك ولده ، وكذلك لو حملت منه وهي زوجة له ملك لغيره ، ثم ملكها قبل أن يصير الولد حيا ، فإنها أم ولد لما ذكرناه ، فأما لو لم يملكها إلا من نفخ الروح فيه ، فصار غيرها ، فلم يكن بعضها حرا قط ، فلا حرية لها ، وله بيعها ، فلو باعها والذي في رحمها نطفة بعد فإنه إن خرجت عن رحمها - وهي نطفة بعد - فهو بيع صحيح ; لأنها نطفة غير مخلقة ، فإن صارت مضغة فالبيع فاسد مردود ; لأنه باعها وبعضها مضغة مخلقة في علم الله تعالى منه ، فهي من أول وقوعها إلى خروجها ولد فهي أم ولد - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية