الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب القضاء ومن هو أهله

م1 - واتفقوا: على أنه لا يجوز أن يولى القضاء من ليس من أهل الاجتهاد.

إلا أبا حنيفة فإنه قال: يجوز ذلك.

قال الوزير: والصحيح في هذه المسألة أن قول من قال لا يجوز تولية قاض حتى يكون من أهل الاجتهاد، فإنه إنما عنى به ما كانت الحال عليه قبل استقرار ما استقر من هذه المذاهب التي اجتمعت الأمة على أن كلا منها يجوز العمل به، لأنه مستند إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى سنته، فالقاضي في هذا الوقت وإن لم يكن من أهل الاجتهاد وإن لم يكن قد سعى في طلب الأحاديث وانتقاد طرقها، وعرف من لغة الناطق بالشريعة صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز معه معرفة ما يحتاجه إليه فيه، وغير ذلك من شروط الاجتهاد فإن ذلك مما قد فرغ له منه غيره ودأب له فيه سواه، وانتهى الأمر من هؤلاء الأئمة المجتهدين إلى ما أراحوا فيه من بعدهم وانحصر الحق في أقاويلهم، ودونت العلوم، وانتهت إلى ما اتضح فيه الحق، فإذا عمل القاضي في أقضيته بما يأخذه عنهم أو عن الواحد منهم، فإنه في معنى من كان أداه اجتهاده إلى قول قال، وعلى ذلك فإنه إذا خرج من خلافهم متوخيا مواطن الاتفاق ما أمكنه كان آخذا بالحزم عاملا بالأولى، وكذلك إذا قصد في مواطن الخلاف توخي ما عليه [ ص: 229 ] الأكثر منهم والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد فإنه قد أخذ بالجزم والأحسن والأولى مع جواز أن يعمل بقول الواحد، إلا أنني أكره أن يكون ذلك من حيث إنه يكون قد قرأ مذهب واحد منهم، أو نشأ في بلد لم يعرف فيها إلا مذهب إمام واحد منهم، أو كان شيخه ومعلمه على مذهب فقيه من الفقهاء خاصة، فقصر نفسه على اتباع ذلك المذهب حتى إنه إذا حضر عنده خصمان، وكانا ما تشاجرا فيه مما يفتي الفقهاء الثلاثة فيه بحكم، نحو الوكيل بغير رضى الخصم، وكان الحاكم حنفيا وقد علم أن مالكا والشافعي وأحمد اتفقوا على جواز هذا التوكيل، فإن أبا حنيفة بمجرد أنه قال: فقيه هو في الجملة من فقهاء الأتباع له، من غير أن يثبت عنده بالدليل، ولا أداه الاجتهاد إلى ما قاله أبو حنيفة، أو إلى ما اتفق عليه الجماعة، فإني أخاف على هذا أن يكون مبتوعا من الله سبحانه وتعالى، بأنه قد اتبع في ذلك هواه، أنه لا يكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وكذلك إن كان القاضي على مذهب مالك واختصم إليه في سؤر الكلب مع كونه يعلم أن الفقهاء كلهم قضوا بنجاسته فعدل إلى مذهبه، وكذلك إن كان القاضي على مذهب الشافعي فتنازع إليه خصمان في متروك التسمية عمدا، فقال أحدهما: إن هذا منعني من بيع شاة مذكاة وأفسدها علي، وقال الآخر: أنا منعته من بيع الميتة فقضى عليه بمذهبه، وقد علم أن الفقهاء الثلاثة على خلافه، وكذلك لو كان القاضي على مذهب أحمد، فاختصم إليه نفسان فقال أحدهما: لي عليه مال، فقال الآخر: له علي وقضيته فقضى عليه بالبراءة في إقراره، وقد علم أن الفقهاء الثلاثة على خلافه، فإن هذا وأمثاله مما توخى اتباع الأكثرين فيه أقرب عندي إلى الإخلاص وأرجح في العمل.

وبمقتضى هذا فإن ولايات الحكام في وقتنا هذا، ولايات صحيحة، وأنهم قد سدوا من ثغور الإسلام ثغرا سده فرض كفاية.

ولقد أهملنا هذا القول ولم نذكره، ومشينا على طريق التغافل التي يمشي فيها من يمشي من الفقهاء، الذين يذكر كل منهم في كتاب إن صنفه، أو كلام إن قال أنه لا يصح أن يكون أحد قاضيا حتى يكون من أهل الاجتهاد، ثم يذكر في شروط الاجتهاد أشياء ليست موجودة في الحكام، فإن هذا كالإحالة والتناقض وكأنه تعطيل للأحكام، وسد لباب الحكم، وأن لا ينفذ حق، ولا يكاتب به، ولا تقام بينة، إلى غير ذلك من هذه القواعد الشرعية، وكان هذا غير صحيح، وبان أن الصحيح أن الحكام اليوم حكوماتهم صحيحة نافذة، وولايتهم جائزة شرعا.

[ ص: 230 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية