الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
باب الأكفاء

( قال : ) اعلم أن الكفاءة في النكاح معتبرة من حيث النسب إلا على قول سفيان الثوري رحمه الله تعالى فإنه كان يقول : لا معتبر في الكفاءة من حيث النسب وقيل : أنه كان من العرب فتواضع ورأى الموالي أكفاء له وأبو حنيفة رحمه الله تعالى كان من الموالي فتواضع [ ص: 23 ] ولم ير نفسه كفؤا للعرب ، وحجته في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم { : الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمي إنما الفضل بالتقوى } ، وهذا الحديث يؤيده قوله تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ، وقال صلى الله عليه وسلم { : كلكم بنو آدم طف للصاع لم يملأ ، وقال : الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة واحدة } فهذه الآثار تدل على المساواة ، وأن التفاضل بالعمل ، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه { ، وخطب أبو طيبة امرأة من بني بياضة فأبوا أن يزوجوه فقال صلى الله عليه وسلم : زوجوا أبا طيبة إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير فقالوا : نعم وكرامة . }

{ وخطب بلال رضي الله عنه إلى قوم من العرب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تزوجوني } ، وأن سلمان خطب بنت عمر رضي الله عنه فهم أن يزوجها منه ثم لم يتفق ذلك ، وحجتنا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم { قريش بعضهم أكفاء لبعض بطن ببطن ، والعرب بعضهم أكفاء لبعض قبيلة بقبيلة والموالي بعضهم أكفاء لبعض رجل برجل } ، وفي حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء ، ولا يزوجن إلا من الأكفاء } وما زالت الكفاءة مطلوبة فيما بين العرب حتى في القتال .

بيانه : في قصة { الثلاثة الذين خرجوا يوم بدر ; للبراز عتبة وشيبة والوليد فخرج إليهم ثلاثة من فتيان الأنصار فقالوا لهم : انتسبوا فانتسبوا فقالوا : أبناء قوم كرام ، ولكنا نريد أكفاءنا من قريش فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك فقال صلى الله عليه وسلم : صدقوا وأمر حمزة وعليا وعبيدة بن الحارث رضوان الله عليهم أجمعين بأن يخرجوا إليهم } فلما لم ينكر عليهم طلب الكفاءة في القتال ففي النكاح أولى ، وهذا لأن النكاح يعقد للعمر ، ويشتمل على أغراض ومقاصد من الصحبة والألفة والعشرة وتأسيس القرابات ، وذلك لا يتم إلا بين الأكفاء ، وفي أصل الملك على المرأة نوع ذلة ، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال { : النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته } ، وإذلال النفس حرام ، قال : صلى الله عليه وسلم { ليس للمؤمن أن يذل نفسه } وإنما جوز ما جوز منه ; لأجل الضرورة ، وفي استفراش من لا يكافئها زيادة الذل ، ولا ضرورة في هذه الزيادة فلهذا اعتبرت الكفاءة ، والمراد من الآثار التي رواها في أحكام الآخرة .

وبه نقول : إن التفاضل في الآخرة بالتقوى ، وتأويل الحديث الآخر الندب إلى التواضع وترك طلب الكفاءة لا الإلزام ، وبه نقول : إن عند الرضا يجوز العقد ويحكى عن [ ص: 24 ] الكرخي رحمه الله تعالى أنه كان يقول : الأصح عندي أن لا تعتبر الكفاءة في النكاح أصلا ; لأن الكفاءة غير معتبرة فيما هو أهم من النكاح ، وهو الدماء فلأن لا تعتبر في النكاح أولى ، ولكن هذا ليس بصحيح فإن الكفاءة غير معتبرة في الدين في باب الدم حتى لا يقتل المسلم بالكافر ، ولا يدل ذلك على أنه غير معتبر في النكاح إذا عرفنا هذا فنقول : الكفاءة في خمسة أشياء ( أحدها ) النسب ، وهو على ما قال : قريش أكفاء بعضها لبعض فإنهم فيما بينهم يتفاضلون ، وأفضلهم بنو هاشم ، ومع التفاضل هم أكفاء ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله تعالى عنها ، وكانت تيمية وتزوج حفصة رضي الله تعالى عنها وكانت عدوية { وزوج ابنته من عثمان رضي الله عنه وكان عبشميا } فعرفنا أن بعضهم أكفاء لبعض .

وروي عن محمد رحمه الله تعالى أنه قال : إلا أن يكون نسبا مشهورا نحو أهل بيت الخلافة فإن غيرهم لا يكافئهم ، وكأنه قال ذلك ; لتسكين الفتنة وتعظيم الخلافة ، لا لانعدام أصل الكفاءة ، والعرب بعضهم أكفاء لبعض فإن فضيلة العرب بكون رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ، ونزول القرآن بلغتهم ، وقال صلى الله عليه وسلم { : حب العرب من الإيمان } { ، وقال صلى الله عليه وسلم لسلمان رضي الله تعالى عنه لا تبغضني قال : وكيف أبغضك ، وقد هداني الله بك ؟ قال : تبغض العرب فتبغضني } ، ولا تكون العرب كفؤا لقريش والموالي لا يكونون كفؤا للعرب كما قال صلى الله عليه وسلم { : والموالي بعضهم أكفاء لبعض } ، وهذا لأن الموالي ضيعوا أنسابهم فلا يكون التفاخر بينهم بالنسب بل بالدين كما أشار إليه سلمان رضي الله تعالى عنه حين تفاخر جماعة من الصحابة بذكر الأنساب فلما انتهى إلى سلمان رضي الله تعالى عنه قالوا : سلمان ابن من ؟ فقال سلمان : ابن الإسلام فبلغ عمر رضي الله تعالى عنه فبكى ، وقال وعمر ابن الإسلام فمن كان من الموالي له أبوان في الإسلام فهو كفؤ لمن له عشرة آباء ; لأن النسبة تتم بالانتساب إلى الأب والجد فمن كان له أبوان مسلمان فله في الإسلام نسب صحيح ومن أسلم بنفسه لا يكون كفؤا ; لمن له أب في الإسلام ومن أسلم أبوه لا يكون كفؤا لمن له أبوان في الإسلام ; لأن هذا يحتاج في النسبة إلى الأب الكافر ، وذلك منهي عنه ; لما روي { أن رجلا انتسب إلى تسعة آباء في الجاهلية فقال صلى الله عليه وسلم : هو عاشرهم في النار } ولكن هذا إذا كان على سبيل التفاخر دون التعريف

التالي السابق


الخدمات العلمية