الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

            لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة إحدى عشر من الهجرة المباركة وقع الخلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم من المهاجرين والأنصار فيمن يتولى أمر المسلمين من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى استقر إجماعهم على خيرهم وخير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، فبويع أبو بكر رضي الله عنه بالخلافة، وهذا يعود لمعرفة الصحابة لفضله وسابقته في الإسلام ولورود العديد من الآيات والأحاديث النبوية التي تشير بدلالة المفهوم إلى أنه أحق الناس بهذا الأمر، فهو الصديق الذي ما ارتج في إسلامه وهو المتصدق بكل ماله تاركا لأهله الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم.

            وهو الذي استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة في أثناء مرضه، وهو الذي أمر أن تسد كل أبواب مشرعة على المسجد إلا بابه إلى غير ذلك من الفضائل.

            ولما تولى الصديق رضي الله عنه الخلافة ارتدت أحياء كثيرة من الأعراب، ونجم النفاق بالمدينة، وانحاز إلى مسيلمة الكذاب بنو حنيفة وخلق كثير باليمامة، والتفت على طليحة الأسدي بنو أسد وطيئ، وبشر كثير، وادعى النبوة كما ادعاها مسيلمة الكذاب، وعظم الخطب واشتدت الحال. وفي هذه الأثناء صمم الصديق على إنفاذ جيش أسامة، فقل الجند عند الصديق، فطمعت كثير من الأعراب في المدينة، وراموا أن يهجموا عليها، فجعل الصديق على أنقاب المدينة حراسا يبيتون بالجيوش حولها.

            كما امتنعت طوائف من العرب عن أداء الزكاة وجعلت وفود العرب تقدم المدينة، يقرون بالصلاة ويمتنعون من أداء الزكاة، ومنهم من امتنع من دفعها إلى الصديق.

            وهنا أبى الصديق عليهم ذلك وصمم على قتال من فرق بين الصلاة والزكاة ولو منعوا فواق ناقة، ولما رأى الصحابة انشراح أبي بكر لهذا الأمر علموا أنه الحق وأجمعوا عليه فكان فيه حفظ الإسلام وأهله.

            وقد خرج الصديق بنفسه لقتال أهل الردة حتى ألح عليه الصحابة بألا يباشر ذلك بنفسه وأن يمكث ويبعث البعوث، وينظر للمسلمين، فوافقهم رضي الله عنه وعقد الألوية بعد أن خرج بالجيوش إلى ذي القصة، فعقد أحد عشر لواء ووجهها لقتال المرتدين ومانعي الزكاة من العرب وذلك بعد رجوع جيش أسامة.

            وفي هذه الأثناء خرجت سجاح مدعية النبوة والتف عليها أناس من قومها وتبعها الكثير من بني تميم وعلى رأسهم مالك بن نويرة، وعدد من أشرافهم، وأرادت أن تقاتل الصديق ثم غيرت وجهتها إلى حيث مسيلمة الكذاب ولها معه قصة ووقع الصلح بينها وبينه.

            وقد رمى الصديق مسيلمة بخالد بن الوليد وأرسل معه الجيوش ففتح الله عليهم وكسروا الملعون وقتله وحشي وأبو دجانة رضي الله عنهما بعد صولات لجيش المسلمين وجولات وحصار المرتدين في حديقة الموت.

            وفي هذه السنة أيضا ارتد أهل عمان ومهرة واليمن، فتبع أهل عمان لقيط بن مالك الأزدي، فادعى النبوة أيضا، وتابعه الجهلة من أهل عمان، فتغلب عليها وقهر جيفرا وعبادا وألجأهما إلى أطرافها.

            فأرسل إليهم الصديق حذيفة بن محصن الحميري وعرفجة البارقي، بالجيوش ثم ألحق بهما عكرمة رضي الله عنه، وأمرهم الصديق أن ينكلوا بالمرتدين.

            وفي هذه السنة أيضا كان مسير خالد بن الوليد لقتال طليحة الأسدي من أهل الردة، ومن انضاف إلى طليحة من بني فزارة مع عيينة بن حصن فكسرهم خالد وهرب طليحة إلى الشام وتفرق جمعه وأسر عيينة بن حصن وأرسله خالدا وهو مكتوف إلى الصديق رضي الله عنه، ثم سار خالد إلى من اجتمع على أم زمل في يوم بزاخة هذا من أصحاب طلحة عدد كثيف فهزمهم الله على يده.

            وفيها كان قتل خالد لمالك بن نويرة بعدما أسره وأصحابه، وكان كما مر قد اتبع سجاح ومنع الزكاة، وفيها كان قتل أبي بكر للفجاءة تحريقا نظرا لخيانته المسلمين وقتلهم.

            وفيها كانت ردة أهل البحرين بعد موت المنذر بن ساوى رضي الله عنه ولم يبق بها بلدة على الثبات سوى قرية يقال لها: جواثى. كانت أول قرية أقامت الجمعة من أهل الردة، وقد حصرهم أهل الردة فأرسل إليهم الصديق العلاء بن الحضرمي فقاتل المرتدين ونكل بهم، واتفق له فيها العديد من الكرامات رضي الله عنه وأرضاه.

            وفيها كان مقتل الأسود العنسي المتنبئ على يد فيروز الديلمي وقيس بن مكشوح، وآزاذ زوجة الأسود وكانت مؤمنة بالله ورسوله وللأسود مبغضة.

            ثم دخلت السنة الثانية عشرة من الهجرة النبوية وفيها أمر الصديق زيد بن ثابت أن يجمع القرآن من اللخاف والعسب وصدور الرجال ، وذلك بعد ما استحر القتل في القراء يوم اليمامة، وفيها كان مسير خالد إلى العراق، وفيها كانت أول جزية حملت من العراق إلى الصديق بعد صلح الحيرة، وفيها كان كتاب خالد إلى مرازبة فارس يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو الحرب.

            وفيها كانت وقعة كاظمة (ذات السلاسل، وقد قتل خالد فيها هرمز مبارزة وانهزم جيش فارس، وفيها كانت وقعة المذار (الثني)، وقد قتل فيها قائد الفرس قارن بن قريانس، وفيها كانت وقعة الولجة والتي هزم فيها الفرس ومات فيها قائدهم الأندرزغر عطشا، وكانت وقعة أليس، والتي أقسم فيها خالد إن منحه الله أكتاف القوم أن يجري النهر بدمائهم وقد استجاب الله له وبر خالد بقسمه لله سبحانه.

            وفيها كانت وقعة أمغيشيا، ووقعة يوم فرات بادقلى وفتح الحيرة، والتي فيها قد لاك خالد السم الذي كان في خاتم عمرو بن عبد المسيح بعدما ذكر الله تعالى فلم يضره.

            وفيها كانت غزوة ذات العيون (الأنبار، والتي فيها أمر خالد أن يرمى الفرس بالنبل فرموا عيونهم ففقئوا قرابة ألف عين فسميت بذات العيون.

            وفيها كانت وقعة عين التمر، والتي فيها أسر خالد عقة بن أبي عقة أمير الجيش وهو يسوي صفوف جيشهم فانهزم الجيش من غير قتال.

            وفيها كانت وقعة دومة الجندل وكان أمر جيش المشركين إلى أكيدر بن عبد الملك والجودي بن ربيعة وقد أسرهما خالد وقتلهما، وفيها أيضا كانت وقعة الحصيد والخنافس والمصيخ، والثني والزميل، ووقعة الفراض، وفي هذه الوقعات جميعا أذل الله فيها الشرك وأهله، وفي هذه السنة حج خالد رضي الله عنه.

            ثم دخلت السنة الثالثة عشرة من الهجرة وفيها كانت معركة اليرموك، وذلك لما خرجت جيوش الصديق نحو الشام وأخبر هرقل بذلك دعا قومه إلى مصالحة المسلمين على نصف خراج الشام فأبوا عليه، فحينئذ أخرج الجيوش في قبالة كل أمير من أمراء حرب المسلمين أميرا مع جيش كثيف، قد بلغ في مجموعه مائتان وأربعون ألفا وكان جيش المسلمين مجتمعا قرابة ستة وثلاثين ألفا إلى أربعين ألفا، وقد أرسل الصديق إلى خالد وكان بالعراق أن يقدم إلى الشام ويكون أميرا على من بها.

            ودارت الحرب على قدم وساق وتصاول الشجعان وتصادم الجمعان فريق هدى وفريق حق عليه الضلال، فكان نصر الله للمؤمنين وهربت الروم ومنح الله المسلمين أكتافهم فشردوا بهم من خلفهم، فقتل من الروم مقتلة عظيمة.

            وفي هذه السنة استغل أهل فارس خروج خالد بعدد من الجيش إلى الشام وأرادوا أن يوقعوا بالمسلمين في العراق فصاولهم وقاتلهم المثنى ونصره الله عليهم، وكان قد راسل الصديق يعلمه أمر الفرس فلما استبطأ رده أتاه فوجده في مرض الموت وأخبره ما كان من نصر الله للموحدين وأنه في حاجة إلى المدد فأمر الصديق عمر أن يندب الناس للخروج إلى العراق مع المثنى، فظل عمر يندب الناس حتى اجتمع عدد منهم بقيادة أبي عبيد بن مسعود الثقفي.

            وفي هذه السنة كانت وفاة الصديق رضي الله عنه.

            وهو عبد الله بن أبي قحافة، واسمه عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، ويكنى أبا بكر، وقد سمي بعتيق وفي سبب تسميته وردت عدة روايات.

            وقد ولد رضي الله عنه بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين وأشهر; وقد مات وله ثلاث وستون سنة، وقد كان إليه أمر الديات والغرم في الجاهلية وإليه المرجع فيها.

            وقد كان رضي الله عنه نحيفا أبيض، حسن القامة، خفيف العارضين، معروق الوجه، غائر العينين، ناتئ الجبهة، أجنأ لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه، عاري الأشاجع، يخضب بالحناء والكتم، وكان كريما عالما بأنساب العرب.

            وهو من أول الناس إسلاما وأصدقهم إيمانا، وعلى يديه كان إسلام أكثر العشر المبشرين بالجنة، وهو من أشجع الصحابة وأقواهم في دين الله، وبه حفظ الله الأمة من الارتداد ونقض دينها، وهو أول من أسلم، وأول من جمع القرآن، وأول من سماه مصحفا، وأول من سمي خليفة.

            وأحواله معلومة وفي الورى مشهورة وفي الكتب منثورة رضي الله عنه وأرضاه.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية