الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إحداهما: أن العلم يستلزم أمورا.

والثانية: أنه يجب نفي تلك الأمور لكونها نقصا.

وهذا باطل من وجوه:

منها: المعارضة بما تقدم.

ومنها: أن نفي العلم أعظم نقصا من تلك اللوازم، فلو قدر أنها تتضمن ما يسمونه نقصا، لكان ما يتضمنه نفي العلم من النقص أعظم، فلا يجوز التزام أعظم النقصين حذرا من أدناهما، إذا قدر أن كلاهما قد جعله هؤلاء نقصا. [ ص: 414 ]

ومنها: أن ما ذكره من المقدمة الأولى اللزومية مما ينازعهم فيه كثير من الناس.

ومنها: أن كون تلك اللوازم نقصا مما ينازع فيه كثير من الناس.

ومنها: أنه يستفصل عن الحدود المذكورة في المقدمتين، فإنها ألفاظ مجملة، وحينئذ فلا بد من منع الملزوم، أو انتفاء اللازم، فإما أن لا يسلم ما ذكروه عن اللزوم، وإما أن لا يسلم ما ذكروه من انتفاء اللازم.

ومنها: بيان أن لوازم العلم كلها كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه.

ومنها: أن ما ذكره مبني على وجوب ثبوت الكلام للرب تعالى وتنزيهه عن النقص، وهذا حق كما قررناه في غير موضع، وبينا أن الكمال الممكن وجوده، الذي لا نقص فيه بوجه، يجب إثباته لله تعالى، وأن العلم من أعظم الكمالات الذي لا نقص فيه بوجه، وقد وجد العلم في الوجود، فثبوته له أولى من ثبوته لغيره، وأن العلم من حيث هو علم لا يستلزم نقصا أصلا، ولكن النفوس الظالمة إذا علمت بعض الأشياء فقد تستعين بالعلم على الظلم، والنفوس الجاهلة به إذا عرفت بعض الحقائق، فقد يضرها معرفة تلك الحقائق، فيحصل الضرر لما في النفوس من الشر.

أما المقدس المنزه عن كل عيب، فعلمه من تمام كماله، وهو مما يحمد به ويثنى به عليه، لا يستلزم الذم والنقص بوجه من الوجوه، فكيف إذا علم وجود العالم وامتناع وجوده بدون العلم وامتناع كونه فاعلا لشيء إلا مع علمه به؟ إلى غير ذلك من الدلائل البرهانية المثبتة لوجوب كونه تعالى عليما بكل شيء. [ ص: 415 ]

لكن نحن في هذا المقام في إبطال شبه النفاة، لا في بيان حجج المثبتين.

وما ذكره أبو البركات في المعارضة بالفعل في غاية الحسن، فإن من لا يلزمه تعب ولا نقص في خلق المخلوقات، فأن لا يلزمه ذلك في علمه بها أولى وأحرى.

وهذا مما يبين أن قول اليهود، الذين وصفوه بالتعب لما خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأنه استراح بعد ذلك -أقرب إلى المعقول من قول أرسطو وأتباعه، الذين يقولون: لو كان عالما بهذا لتعب، لكن هذه المعارضة مبنية على أنه علة فاعلة للعالم، سواء قيل: إنه فاعل له بالإرادة، أو موجب له بذاته بلا إرادة.

وكونه مبدأ للعالم هو مما اتفق عليه الأمم من الأولين والآخرين، ووافقهم على ذلك أئمة أتباع المشائين، كابن سينا وأمثاله.

وأما أرسطو فليس في كلامه إلا أنه علة غائية، بمعنى أن الفلك يتحرك للتشبه به، ليس فيه أنه مبدع للعالم.

وهذا، وإن كان في غاية الجهل والكفر، فكلامه في علمه مبني على هذا. وإبطال كلامه في العلم ممكن، مع تقدير هذا الأصل الفاسد أيضا من وجوه. فإن حقيقة قول أرسطو وأتباعه: إن الرب ليس بخالق ولا عالم.

وأول ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم [سورة العلق: 1-5]. [ ص: 416 ]

وكذلك قوله: سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى [سورة الأعلى: 1-3].

وقول موسى لفرعون: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى [سورة طه: 50]، وأمثال ذلك.

وهؤلاء عندهم لم يخلق شيئا، ولم يعلم أحدا، بل هو في نفسه ليس بعالم، فكيف يعلم غيره ويهديه؟

التالي السابق


الخدمات العلمية