الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 59 ] باب الهبة في النكاح ( قال : ) رضي الله عنه النكاح بلفظة الهبة والصدقة والتمليك صحح في قول علمائنا ، وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى : لا يصح إلا بلفظة النكاح والتزويج ، واستدل بقوله تعالى : { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي } فقد جعل النكاح بلفظة الهبة خالصا للرسول صلوات الله عليه دون غيره من المؤمنين ، وقال : صلى الله عليه وسلم { أوصيكم بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان اتخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله } ، وكلمة الله التي أمرنا بالاستحلال بها : الإنكاح والتزويج ، وفي قوله : { اتخذتموهن بأمانة الله } إشارة إلى أن هذا العقد غير معقود لمقصود إثبات الملك ، ولهذا انعقد بلفظة الإنكاح والتزويج ، وهما لا يدلان على الملك ، ألا ترى أنه لا ينعقد بهما شيء من عقود التمليكات ، ولكن المقصود بالنكاح ما لا يحصى من مصالح الدين والدنيا ، وألفاظ التمليك لا تدل على شيء من ذلك فلا ينعقد بها هذا العقد ، وهو معنى قولهم هذا عقد خاص فلا ينعقد بغيره ، ألا ترى أن الشهادة لما شرعت بلفظ خاص لمعنى ، وهو أنها موجبة بنفسها كما أشار الله تعالى إليه في قوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } لم يقم لفظ آخر مقام هذا اللفظ حتى لو قال الشاهد : أحلف ; لا يصح أداء الشهادة به ، والدليل عليه أن التزويج هو التعليق ، والنكاح هو الضم ، وليس فيهما ما يدل على الملك ، وليس في التمليك معنى التلفيق والضم ، فلا ينعقد هذا اللفظ بألفاظ التمليك ، وكيف ينعقد النكاح بهذا اللفظ ، والفرقة تقع به ؟ إذا قال لامرأته : وهبت نفسك منك كان بمنزلة لفظ الطلاق ، مع أن النكاح لا يصح إلا بشهود ، وعند ذكر لفظ الهبة الشهود لا يعرفون أنهما أرادا النكاح ، وحجتنا في ذلك قوله تعالى { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي } صلى الله عليه وسلم معناه : إن أراد النبي أن يستنكحها فوهبت نفسها منه فقد جعل الله تعالى الهبة جوابا للاستنكاح ، والاستنكاح طلب النكاح ، وأما قوله : { خالصة لك } فقد قيل : المراد به المرأة يعني أنها خالصة لك فلا تحل لأحد بعدك حتى يكون شريكك في الفراش من حيث الزمان كما قال الله تعالى في آية أخرى : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ، ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } ، والأصح أن المراد هبة خالصة ; لأن قوله : { إن وهبت } يقتضي هبة ، والكناية تنصرف إلى الثابت بمقتضى الكلام فيكون المعنى هبة خالصة لا يلزمك مهر لها ، وهذا لك دون المؤمنين .

ألا ترى أنه قال : [ ص: 60 ] { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم } يعني من الابتغاء بالمال ، والدليل عليه أنه قابل الموهوبة نفسها بالمؤتى مهرها بقوله : { إنا أحللنا لك أزواجك } ، وكذلك قال في آخر الآية : { لكي لا يكون عليك حرج } ، وهو نص على أن الخصوصية ; لدفع الحرج عنه ، وذلك ليس في اللفظ إذ لا حرج عليه في ذكر لفظ النكاح ، إنما الحرج في إبقاء المهر مع أن المذكور لفظة الهبة في جانب المرأة لا في جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرفنا أن المراد الخصوصية بجوار نكاحه بغير مهر .

وإمامنا في المسألة علي رضوان الله عليه فإن رجلا وهب ابنته لعبيد الله بن الحر بشهادة شاهدين فأجاز ذلك علي رضي الله تعالى عنه ، والمعنى فيه : أن هذا ملك يستباح به الوطء فينعقد بلفظ الهبة ، والتمليك كملك اليمين ، وهذا كلام على سبيل الاستدلال لا على سبيل المقايسة ; لأن صلاحية اللفظ كناية عن غيره ، وليس بحكم شرعي ; ليعرف بالقياس بل طريق معرفة ذلك ، النظر في كلام أهل اللغة ، وهذه إشارة إلى مذهبهم في الاستعارة ; لأنهم يستعيرون اللفظ لغيره ; لاتصال بينهما من حيث السببية كما قال الله تعالى : { إني أراني أعصر خمرا } أي : عنبا بالعصر يصير خمرا ، ويسمي المطر سماء ; لأنه ينزل من السماء ، وما يكون من علو فالعرب تسميه سماء ، وكذلك النبات يسمى سماء ; لأنه ينبت بسبب المطر فإنهم يقولون : ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم ، وإذا ثبت هذا فنقول : هذه الألفاظ سبب لملك الرقبة ، وملك الرقبة في محل ملك المتعة موجب لملك المتعة فللاتصال بينهما سببا يصلح هذا اللفظ كناية عن ملك المتعة ، والمقصود من النكاح ملك المتعة دون سواه من المقاصد ، ألا ترى أنه يختص به الزوج حتى يجب البدل عليه ، وسائر المقاصد يحصل لهما ، وإن ملك الطلاق الرافع لهذا الملك يختص به الزوج فعرفنا أن المقصود هو الملك دون ما توهمه الخصم .

وإنما انعقد بلفظ النكاح ، والتزويج ; لأنهما لفظان جعلا علما لهذا العقد بالنص ، واعتبار المعنى في غير المنصوص عليه ، فأما في المنصوص لا يعتبر المعنى مع أنهما لفظان لإيجاب ملك ما ليس بمال فلهذا لا تأثير لهما في إثبات ملك المال ، ومتى صار اللفظ كناية عن غيره سقط اعتبار حقيقته ، وقام مقام اللفظ الذي جعل كناية عنه ، والشرط سماع الشاهدين اللفظ الذي ينعقد به النكاح فأما وقوفهما على مقصود المتعاقدين ليس بشرط مع أنه إذا قال : وهبت ابنتي منك بصداق كذا ، فالشهود يعلمون أنه أراد النكاح ، وكما أن الفرقة تحصل بلفظ الهبة تحصل بلفظ الزوجية إذا قال لامرأته : تزوجي ونوى به الطلاق يقع ، ولم يدل ذلك على أنه لا ينعقد به [ ص: 61 ] النكاح .

التالي السابق


الخدمات العلمية