الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وهذا الكلام أبعد ممن يقول بتخصيص العالم بوقت دون وقت، وصفة دون صفة، إنما كان لأن العلم القديم تعلق به على ذلك الوجه، كما قال ذلك طوائف من المتكلمين من الأشعرية وغيرهم، كما سيأتي بيانه. مثل أن هؤلاء جعلوا العلم مخصصا لما أريد، وهؤلاء المتفلسفة جعلوا العلم مخصصا لما لم يرد عندهم. والكلام على هذا من وجوه:

أحدها: أن يقال: لا نسلم أن هذا مخلصا، ولا أنه واقع ولا ممكن، كيف نعلم أنه لا مخلص غيره، وهم لم يذكروا حجة على ذلك، ولا يمكنهم أن يقيموا عليه حجة أصلا.

الوجه الثاني: أن يقال: العلم أبدا تابع للمعلوم مطابق له، ثم قد يكون سببا في وجود المعلوم، كالعلم بما يفعله العالم، مثلما ذكره من علم الرب تعالى بالنظام الكلي، وقد لا يكون سببا، كالعلم بالأمور التي لا تكون بفعل الإنسان ولا بقصده، ثم من الناس -من المتفلسفة ونحوهم- من يجعل العلم مطلقا صفة فعلية، أو يجعله هو وحده الموجب للمعلوم، وهو غلط كما سنبينه. ومنهم -من المتكلمين وغيرهم- من يجعله أبدا صفة [ ص: 511 ] انفعالية مطابقة للمعلوم، لا يكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة، ويقول فيه وفي القول: ليس لمتعلقهما منها صفة ثبوتية، وهذا وإن كان أقرب إلى الصواب من القول الأول ففيه تقصير؛ بل الصواب أنه يجتمع في جنسه الأمران، إذ الأولون يسلمون أنه عالم بنفسه، وهذا ليس مؤثرا في المعلوم، والآخرون يقولون: الإرادة مشروطة بالعلم، وهذا اعتراف بتوقف المفعول عليه؛ لكن المقصود الكلام في العلم الذي له تأثير في المعلوم وهو العلم العملي، فنقول:

من الأمور المعلومة بالفطرة البديهية الضرورية، أن الإنسان إذا عمل عملا بإرادته، يجد من نفسه أنه يكون شاعرا بما يريد أن يفعله، وأنه مع الشعور لا بد أن يكون مريدا، ولا بد مع هذين أن يكون قادرا عليه، ويجد من نفسه أن إحساسه وشعوره يقتضي إرادة الفعل ومحبته، وأن له شعورا بما يفعله لأجله، وشعورا بالحب والإرادة التي في نفسه لذلك المطلوب، وشعورا بالفعل الذي يتوصل به إليه. فهذه أربع حقائق: مراد مطلوب بالفعل؛ وإرادة في النفس له، وفعل موصل إليه، وإرادة لذلك الفعل، كالطعام مثلا، والشعور يتعلق بهذه الأربعة، فإنه إذا أخبر بالطعام وهو جائع أحس من نفسه بشهوته ومحبته، فأراد أكله، ومقصوده بذلك وجود لذة الأكل ودفع ألم الجوع؛ وهو يفرق بين نفس الأعيان واللذة بها وبين إرادة ذلك، ثم يريد الأكل الموصل إلى المطلوب، ويفعل هذا الفعل. وهكذا في شهوة النكاح، وهكذا في جميع الأفعال من العبادات وغيرها، والعلم سابق للإرادة [ ص: 512 ] والعمل في ذلك كله. فإنه مثلا يعرف الله تعالى وثوابه وعقابه، فيصير في قلبه محبة له أو لثوابه الملائم له. فالله تعالى هو مقصوده ومعبوده، وهو يريد التنعم بما يحصل له من النعيم، المتعلق بذاته تعالى، كالنظر إليه أو من مخلوقاته، مثل موجودات الجنة، فكلاهما مقصود له، وقصد هذا مستلزم هذا، كتلازم قصد الأعيان المطعومة، وقصد لذة الأكل، ثم يريد الأعمال الموصلة إلى ذلك ويعملها. ومن المعلوم أن نفس العلم بالمعقولات لا يغني عن إرادة ذلك والقدرة عليه، فمن ادعى أن مجرد العلم هو كاف في حصول المعلومات، كان مكابرا مباهتا؛ فإنه في المشاهد منتف قطعا، وأما في الغائب فغايته أن يعلمه بنوع شيء: قياس الشمول، أو التمثيل.



التالي السابق


الخدمات العلمية