الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول زاد البخاري (تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ، ويقول العبد أطعمني واستعملني ، ويقول الابن أطعمني إلى من تدعني ، فقال يا أبا هريرة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال لا ، هذا من كيس أبي هريرة ) .

                                                            التالي السابق


                                                            الحديث الثاني ، وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اليد العليا خير من اليد [ ص: 176 ] السفلى وابدأ بمن تعول . (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) أخرجه البخاري ، وأبو داود ، والنسائي من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ ( أفضل الصدقة ما ترك غني) اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول ، تقول المرأة إما أن تطعمني [ أو تطلقني ] ، ويقول العبد أطعمني واستعملني ، ويقول الابن أطعمني إلى من تدعني فقالوا يا أبا هريرة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال لا هذا من كيس أبي هريرة ) ؟ لفظ البخاري ، ولم يذكر أبو داود الموقوف ، وأخرجه النسائي من رواية زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة ، وفيه فسئل أبو هريرة من يعول يا أبا هريرة فقال امرأتك تقول أنفق علي أو طلقني ، وعبدك يقول أطعمني واستعملني ، وابنك يقول إلى من تذرني ، وفي رواية له من هذا الوجه رفع ذلك ، ولفظه فقيل من أعول يا رسول الله قال امرأتك ممن تعول تقول أطعمني وإلا فارقني ؛ خادمك يقول أطعمني واستعملني ، وولدك يقول إلى من تتركني ، وأخرج مسلم والترمذي الجملتين اللتين رويناهما خاصة في أثناء حديث من طريق قيس بن أبي حازم عن أبي هريرة ، وأخرجه البخاري أيضا من طريق عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة بلفظ خير الصدقة ما كان على ظهر غنى ، وابدأ بمن تعول .

                                                            (الثانية) تقدم الكلام على الجملة الأولى في كتاب الزكاة .

                                                            وأما قوله (وابدأ بمن تعول) فمعناه (بمن تمون) ويلزمك نفقته من عيالك فإن فضل شيء فليكن للأجانب يقال عال الرجل عياله [ ص: 177 ] يعولهم وأعالهم وعيلهم إذا قام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة وغيرهما قال في المحكم : وعيال الرجل الذين يتكفل بهم ، وقال في المشارق : هم من يقوته الإنسان من ولد وزوجة .



                                                            (الثالثة) فيه إيجاب النفقة على العيال ، وفيه تقديم نفقة نفسه وعياله لأنها منحصرة فيه بخلاف نفقة غيرهم ، وفيه الابتداء بالأهم فالأهم في الأمور الشرعية.

                                                            (الرابعة) ترجم النسائي في سننه بعد رواية هذا الحديث على تفسيره ، وأورد فيه حديث ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقوا فقال رجل يا رسول الله عندي دينار ، قال تصدق به على نفسك قال عندي آخر قال تصدق به على زوجتك قال عندي آخر قال تصدق به على ولدك قال عندي آخر قال تصدق به على خادمك قال عندي آخر قال أنت أبصر ، ورواه ابن حبان في صحيحه هكذا ، ورواه أبو داود ، وابن حبان ، والحاكم في مستدركه ، وصححه بتقديم الولد على الزوجة ، وقال الخطابي في الكلام عليه هذا الترتيب إذا تأملته علمت أنه صلى الله عليه وسلم قدم الأولى فالأولى ، والأقرب فالأقرب ، وهو أنه أمره أن يبدأ بنفسه ثم بولده لأن الولد كبضعته فإذا ضيعه هلك ولم يجد من ينوب عنه في الإنفاق عليه ثم ثلث بالزوجة ، وأخرجها عن درجة الولد لأنه إذا لم يجد ما ينفق عليها فرق بينهما ، وكان لها من يمونها من زوج أو ذي رحم تجب نفقتها عليه ثم ذكر الخادم لأنه يباع عليه إذا عجز عن نفقته ، وقال والدي رحمه الله في شرح الترمذي ، وإذ قد اختلفت الرويتان ، وكلاهما من رواية ابن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة فيصار إلى الترجيح ، وقد اختلف على حماد بن زيد ، فقدم السفيانان ، وأبو عاصم النبيل ، وروح بن القاسم عن حماد ذكر الولد على الزوجة ، وهي رواية الشافعي في المسند ، وأبي داود والحاكم في المستدرك وصححه ، وقدم الليث ويحيى القطان عن حماد الزوجة على الولد ، وهي رواية النسائي ، وعند ابن حبان والبيهقي ذكر الروايتين معا ، وهذا يقتضي ترجيح رواية تقديم الولد على الزوجة انتهى .

                                                            والذي أطبق عليه أصحابنا الشافعية كما [ ص: 178 ] قاله الرافعي والنووي تقديم الزوجة على الولد لأن نفقتها آكد فإنها لا تسقط بمضي الزمان ولا بالإعسار ولأنها وجبت عوضا لكن اعترضه إمام الحرمين بأن نفقتها إذا كانت كذلك كانت كالديون ، ونفقة القريب في مال المفلس تقدم على الديون ، وخرج لذلك احتمالا في تقديم القريب ، وأيده بهذا الحديث ، وهو وجه حكاه المتولي في التتمة أن نفقة الولد الطفل تقدم على نفقة الزوجة ، وقد عرفت أن الخطابي مشى عليها في شرح هذا الحديث ، وعلله بما سبق ، والله أعلم .

                                                            (الخامسة) قد يدخل في قوله ، وابدأ بمن تعول كل من يمونه الإنسان ، وإن لم تكن نفقته واجبة عليه ، ويوافقه تفسير صاحب المحكم العيال ، ويوافقه كلام الإمام الشيخ تقي الدين السبكي في قسم الصدقات فإنه قال الظاهر أن المراد بالعيال من تلزمه نفقته ، ومن لا تلزمه ممن تقضي المروءة والعادة بقيامه بنفقتهم ممن يمكن صرف الزكاة إليه من قريب حر وغيره ، وكذا الزوجة لأن نفقتها آكد ، وإن كانت دينا فإنها تجب يوما فيوما ، ولو جعلت من سهم الغارمين ففي تمييز نصيبها منه ونصيبه من سهم المساكين عسر أو خلاف في الأخذ بصفتين ، وفي إفراد كل بالصرف من غير تبعة عسر حتى لو كانت مسكينة ، ولها ولد لو كانت موسرة لزمها نفقته فهو من عيالها .



                                                            (السادسة) قد يستدل به على تحريم الإيثار بقوته أو قوت عياله لما في ذلك من مخالفة أمره عليه الصلاة والسلام بالبداءة بمن يعول ، وأقوى من ذلك في الدلالة على هذا قوله عليه الصلاة والسلام كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ، وهو الذي صححه النووي في شرح المهذب لكن صحح في الروضة جواز الإيثار بقوته دون قوت عياله قال في شرح المهذب ، ولا يشترط في جواز الضيافة الفضل عن نفقته ونفقة عياله لتأكدها وكثرة الحث عليها قال : وليست الضيافة صدقة ، واستدل على ذلك بحديث الأنصاري الذي نزل به الضيف فأطعمه قوت صبيانه لكنه خالف ذلك في شرح مسلم فقال لا يجوز لأنها غير واجبة ، وأجاب عن الحديث المذكور بحمله على أن الصبيان لم يكونوا محتاجين للأكل ، وإنما طلبوه على عادة الصبيان في الطلب من غير حاجة ، والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية