الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [195] وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين

                                                                                                                                                                                                                                      وأنفقوا في سبيل الله أمر بالإنفاق في سائر وجوه القربات والطاعات. ومن أهمها: صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 480 ] وقوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة أي: ما يؤدي إلى الهلاك أي: لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك، وذلك بالتعرض لما تستوخم عاقبته، جهلا به.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الراغب: وللآية تأويلان بنظرين:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: إنه نهي عن الإسراف في الإنفاق، وعن التهور في الإقدام.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: إنه نهي عن البخل بالمال، وعن القعود عن الجهاد. وكلا المعنيين يراد بها. فالإنسان، كما أنه منهي عن الإسراف في الإنفاق، والتهور في الإقدام، فهو منهي عن البخل والإحجام عن الجهاد، ولهذا قال تعالى: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا الآية، وقال: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان أمر الإنفاق أخص بالأنصار الذين كانوا أهل الأموال، لتجرد المهاجرين عنها، وقد اشتهر في هذه الآية حديث أبي أيوب الأنصاري، رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وغيرهم... ولفظ الترمذي: عن أسلم أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر. وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد. فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل عليهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار. لما أعز الله [ ص: 481 ] الإسلام، وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرا - دون رسول الله صلى الله عليه وسلم -: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلنا: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو. فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم، هذا حديث حسن غريب صحيح.

                                                                                                                                                                                                                                      أقول: إنكار أبي أيوب رضي الله عنه إما لكونه لا يقول بعموم اللفظ بل بخصوص السبب، وإما لرد زعم أنها نزلت في القتال. أي: في حمل الواحد على جماعة العدو كما تأولوها. وهذا هو الظاهر. وإلا فاللفظ يقتضي العموم، ووروده على السبب لا يصلح قرينة لقصره على ذلك. ولا شبهة أن التعبد إنما هو باللفظ الوارد وهو عام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد استشهد بعموم الآية عمرو بن العاص فيما رواه ابن أبي حاتم بسنده: أن عبد الرحمن الأسود بن عبد يغوث أخبر أنهم حاصروا دمشق. فانطلق رجل من أزد شنوءة، فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل، فعاب ذلك عليه المسلمون، ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص، فأرسل إليه عمرو فرده. وقال عمرو: قال الله: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روي في سبب نزولها آثار ضعيفة ساقها ابن كثير وهي - والله أعلم - من باب صدق عمومها على ما رووه.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه:

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحاكم: تدل الآية على جواز الهزيمة في الجهاد إذا خيف على النفس، وتدل على جواز ترك الأمر بالمعروف إذا خاف، لأن كل ذلك إلقاء النفس إلى التهلكة. وتدل على جواز مصالحة الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين. كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية. وكما فعله أمير المؤمنين علي عليه السلام بصفين. وكما فعله الحسن عليه السلام من مصالحة معاوية. وتدل أيضا على جواز مصالحة الإمام بشيء من أموال الناس إذا [ ص: 482 ] خشي التهلكة. ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يصالح يوم الأحزاب بثلث ثمار المدينة حتى شاور سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فأشارا بترك ذلك. وهو لا يعزم إلا على ما يجوز.

                                                                                                                                                                                                                                      لطيفة:

                                                                                                                                                                                                                                      الإلقاء لغة: طرح الشيء، عدي بإلى لتضمن معنى الانتهاء، والباء مزيدة في المفعول لتأكيد معنى النهي. والمراد بالأيدي: الأنفس، فذكر الجزء وإرادة الكل لمزيد اختصاص لها باليد. بناء على أن أكثر ظهور أفعال النفس بها. والتهلكة والهلاك والهلك واحد. فهي مصدر. أي: لا توقعوا أنفسكم في الهلاك.

                                                                                                                                                                                                                                      والتهلكة بضم اللام. قال الخارزنجي: لا أعلم في كلام العرب مصدرا على تفعلة - بضم العين - إلا هذا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال اليزيدي: هو من نوادر المصادر. ولا يجري على القياس.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري: ويجوز أن يقال: أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما. على أنها مصدر من هلك. فأبدلت من الكسرة ضمة، كما جاء الجوار في الجوار هذا ما ذكروه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الفخر الرازي - ولله دره - بعد نقله نحو ما سبق: وإني لأتعجب كثيرا من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع، وذلك أنهم لو وجدوا شعرا مجهولا يشهد لما أرادوه فرحوا به واتخذوه حجة قوية. فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى، المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة - أولى أن يدل على صحة هذه اللفظة واستقامتها.

                                                                                                                                                                                                                                      وأحسنوا أي: تحروا فعل الإحسان، أي: الإتيان بكل ما هو حسن، ومن أجله الإنفاق. وقوله: إن الله يحب المحسنين قال الراغب: نبه بإظهار المحبة للمحسنين على شرف منزلتهم وفضيلة أفعالهم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية