الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الأحباس

أخبرنا الربيع بن سليمان قال أخبرنا الشافعي رحمه الله تعالى قال جميع ما يعطي الناس من أموالهم ثلاثة وجوه . ثم يتشعب كل وجه منها ، والعطايا منها في الحياة وجهان ، وبعد الوفاة واحد : فالوجهان من العطايا في الحياة مفترقا الأصل والفرع ، فأحدهما يتم بكلام المعطي والآخر يتم بأمرين ، بكلام المعطي وقبض المعطى أو قبض من يكون قبضه له قبضا .

( قال الشافعي ) والعطايا التي تتم بكلام المعطي دون أن يقبضها المعطى ما كان إذا خرج به الكلام من المعطى له جائرا على ما أعطى لم يكن للمعطي أن يملك ما خرج منه فيه الكلام بوجه أبدا وهذه العطية الصدقات المحرمات الموقوفات على قوم بأعيانهم ، أو قوم موصوفين وما كان في معنى هذه العطايا مما سبل محبوسا على قوم موصوفين ، وإن لم يسم ذلك محرما فهو محرم باسم الحبس .

( قال الشافعي ) : فإذا أشهد الرجل على نفسه بعطية من هذه فهي جائزة لمن أعطاها ، قبضها ، أو لم يقبضها ، ومتى قام عليه أخذها من يدي معطيها وليس لمعطيها حبسها عنه على حال بل يجبر على دفعها إليه ، وإن استهلك منها شيئا بعد إشهاده بإعطائها ضمن ما استهلك كما يضمنه أجنبي لو استهلكه ; لأنه إذا خرج من ملكه فهو والأجنبي فيما استهلك منه سواء ، ولو مات من جعلت هذه الصدقة عليه قبل قبضها ، وقد أغلت غلة أخذ وارثه حصته من غلتها ; لأن الميت قد كان مالكا لما أعطى ، وإن لم يقبضه كما يكون له غلة أرض لو غصبها ، أو كانت وديعة في يدي غيره فجحدها ثم أقر بها ، وإن لم يكن قبض ذلك ، ولو مات بها قبل أن يقبضها من تصدق بها عليه لم يكن لوارثه منها شيء وكانت لمن تصدق بها عليه ، ولا يجوز أن يقال ترجع موروثة والموروث إنما يورث ما كان ملكا للميت ، فإذا لم يكن للمتصدق الميت أن يملك شيئا في حياته ، ولا بحال أبدا لم يجز أن يملك الوارث عنه بعد وفاته ما لم يكن له أن يملك في حياته بحال أبدا .

قال : وفي هذا المعنى العتق ، إذا تكلم الرجل يعتق من يجوز له عتقه تم العتق ، ولم يحتج إلى أن يقبله المعتق ، ولم يكن للمعتق ملكه ، ولا لغيره ملك رق يكون له فيه بيع ، ولا هبة ، ولا ميراث بحال .

والوجه الثاني من العطايا في الحياة ما أخرجه المالك من يده ملكا تاما لغيره بهبته ، أو ببيعه ويورث عنه ، وهذا من العطايا يحل لمن أخرجه من يديه أن يملكه بوجوه ، وذلك أن يرث من أعطاه ، أو يرد عليه المعطى العطية ، أو يهبها له ، أو يبيعه إياها ، وهذا مثل النحل والهبة والصدقة غير المحرمة ، ولا التي في معناها بالتسبيل وغيره وهذه العطية تتم بأمرين :

إشهاد من أعطاها وقبضها بأمر من أعطاها والمحرمة والمسبلة تجوز بلا قبض . قيل : تقليد الهدي وإشعاره وسياقه وإيجابه بغير تقليد يكون على مالكه بلاغه البيت ونحوه والصدقة فيه بما صنع منه ، ولم يقبضه من جعل له وليس كذلك ما تصدق به بغير حبس مما لا يتم إلا بقبض من أعطيها لنفسه ، أو قبض غيره له ممن قبضه له قبض ، وهذا الوجه من العطايا لمعطيه أن يمنعه من أعطاه إياه ما لم يقبضه ، ومتى رجع في عطيته قبل قبض من أعطيه فذلك له ، وإن مات المعطى قبل يقبض العطية فالمعطي بالخيار إن أحب أن يعطيها ورثته عطاء مبتدأ لا عطاء موروثا عن المعطى ; لأن المعطى لم يملكها فعل وذلك أحب إلي له ، وإن شاء حبسها [ ص: 54 ] عنهم ، وإن مات المعطي قبل يقبضها المعطى فهي لورثة المعطي ; لأن ملكها لم يتم للمعطى . قال : والعطية بعد الموت هي الوصية لمن أوصى له في حياته فقال : إذا مت فلفلان كذا فله أن يرجع في الوصية ما لم يمت ، فإذا مات ملك أهل الوصايا وصاياهم بلا قبض كان من المعطى ، ولا بعده وليس للورثة أن يمنعوه الموصى لهم ، وهو لهم ملكا تاما - قال : وأصل ما ذهبنا إليه أن هذا موجود في السنة والآثار ، أو فيهما ففرقنا بينه اتباعا وقياسا .

التالي السابق


الخدمات العلمية