الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولما تمم الكلام على السلام ولواحقه التي آخرها مصافحة الأجنبية وتشميتها أعقب ذلك بالكلام على صلة الأرحام وبر الوالدين ومتعلقات ذلك فقال :

مطلب : في صلة الرحم : وكن واصل الأرحام حتى لكاشح توفر في عمر ورزق وتسعد ( وكن ) أنت وهو خطاب لكل من يصلح له الخطاب ، من أهل السنة والكتاب ، الذين لهم تمام الاقتداء بنبي الهدى والأصحاب ( واصل الأرحام ) جمع رحم وهو القرابة والصلة ضد القطيعة .

قال الله تعالى { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها . وقال تعالى { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } يعني من الرحم وغيرها .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ; ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه . ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت } .

وأخرج أبو يعلى بإسناد جيد عن رجل من خثعم قال { أتيت رسول الله ؟ صلى الله عليه وسلم وهو في نفر من أصحابه فقلت أنت الذي تزعم أنك رسول الله قال نعم ، قال قلت يا رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال الإيمان بالله . قلت يا رسول الله ثم مه ؟ قال ثم صلة الرحم . قال قلت يا رسول الله أي الأعمال أبغض إلى الله ؟ قال الإشراك بالله . قال قلت يا رسول الله ثم مه ؟ قل ثم قطيعة الرحم . قال قلت يا رسول الله ثم مه ؟ قال الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف } .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي أيوب رضي الله عنه { أن أعرابيا عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفر ، فأخذ بخطام ناقته أو بذمامها ثم قال يا رسول الله أو يا محمد أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار ، قال فكف النبي صلى الله عليه وسلم ثم نظر في أصحابه [ ص: 348 ] ثم قال لقد وفق أو لقد هدي . قال كيف قلت ؟ قال فأعادها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصل الرحم . دع الناقة } وفي رواية { وتصل ذا رحمك فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن تمسك بما أمرته دخل الجنة } .

وأخرجا أيضا عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ، ومن قطعني قطعه الله } .

وأخرجا أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم } ، زاد في رواية البيهقي { فأخذت بحقوي الرحمن ، فقال مه ، فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة . قال نعم ، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت بلى ، فقال فذلك لك . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرءوا إن شئتم { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم } } قوله فأخذت بحقوي الرحمن ، قيل معناه الاستجارة والاعتصام بالله عز وجل ، يقال عذت بحقو فلان إذا استجرت به ، وقيل الحقو الإزار وإزاره عزه ، فلاذت الرحم بعزة الله تعالى من القطيعة .

وقال العلامة الشيخ مرعي في أقاويل الثقات : الحقو هو ما تحت الخاصرة ويطلق على الإزار .

قال وقال الخطابي لا أعلم أحدا من العلماء حمل الحقو على ظاهر مقتضاه في اللغة وإنما معناه اللياذ والاعتصام ، وتمثيلا له بفعل من اعتصم بحبل ذي عزة واستجار بذي ملكة وقدرة وقال البيهقي معناه عند أهل النظر أنها استجارت واعتصمت بالله كما تقول العرب تعلقت بظل جناحه أي اعتصمت به .

وقال بعضهم : قوله فأخذت بحقوي الرحمن معناه فاستجارت بكنفي رحمته . والأصل في الحقو معقد الإزار . ولما كان من شأن المستجير أن يتمسك بحقوي المستجار به وهما جانباه الأيمن والأيسر استعير الأخذ بالحقو في اللياذ بالشيء . انتهى .

وأخرج الإمام أحمد بإسناد جيد قوي وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { الرحم [ ص: 349 ] شجنة من الرحمن تقول يا رب إني قطعت ، يا رب إني أسيء إلي ، يا رب إني ظلمت ، يا رب يا رب ، فيجيبها ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك } .

وأخرج الإمام أحمد أيضا بإسناد رواته ثقات والبزار عن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق ، وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن عز وجل ، فمن قطعها حرم الله عليه الجنة } قوله { شجنة من الرحمن } قال أبو عبيد : يعني قرابة مشتبكة كاشتباك العروق ، ومنها لغتان كسر الشين وضمها وإسكان الجيم .

وأخرج البزاز بإسناد حسن عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { الرحم حجنة متمسكة بالعرش تكلم بلسان ذلق اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني ، فيقول الله تبارك وتعالى أنا الرحمن الرحيم وإني شققت الرحم من اسمي ، فمن وصلها وصلته ومن بتكها بتكته } قوله حجنة هي بفتح الحاء المهملة والجيم وتخفيف النون صنارة المغزل ، وهي الحديدة العقفاء التي يعلق بها الخيط ثم يفتل الغزل .

وقوله بلسان ذلق . الذلق بالذال المعجمة كفرح ونصر وكرم أي حديد بليغ بين الذلاقة ، ولسان ذلق : طلق .

وقوله { من بتكها بتكته } أي من قطعها قطعته . قول الناظم ( حتى لكاشح ) حتى حرف للغاية والتدريج أما الغاية فبأن يكون ما بعدها غاية لما قبلها في زيادة أو نقص ينقطع الحكم عندها ، وأما التدريج فبأن ينقضي ما قبلها شيئا فشيئا إلى أن يبلغ الغاية ، ولذا اعتبر في المعطوف أن يكون بعضا مما قبلها كما في قول الناظم حتى لكاشح ، فإن ذا الرحم الكاشح من ذوي رحمه ، إذ عداوته لا تخرجه عن كونه من ذوي رحمه أو منزلا منزلة البعض كما في قول الشاعر :

    ألقى الصحيفة كي يخفف رحله
والزاد حتى نعله ألقاها

لأن المراد ألقى ما يثقله حتى انتهى الإلقاء إلى نعله .

فالمراد الحث على صلة الرحم حتى على الكاشح وهو الذي يضمر عداوته في كشحه وهو خصره .

وأخرج الطبراني وابن خزيمة في صحيحه والحاكم وقال على شرط مسلم عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { أفضل [ ص: 350 ] الصدقة على ذي الرحم الكاشح } يعني أفضل الصدقة على ذي الرحم المضمر العداوة في باطنه وهو في معنى قوله صلى الله عليه وسلم { وتصل من قطعك } .

وأخرج الإمام أحمد بسند رجاله ثقات عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال { لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بيده فقلت يا رسول الله أخبرني بفواضل الأعمال ، فقال يا عقبة صل من قطعك ، وأعط من حرمك ، وأعرض عمن ظلمك . وفي لفظ واعف عمن ظلمك } .

وأخرج الطبراني عن علي رضوان الله عليه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم { ألا أدلك عن أكرم أخلاق الدنيا والآخرة ، أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وأن تعفو عمن ظلمك } .

والطبراني عن معاذ بن أنس مرفوعا { أن أفضل الفضائل أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك ، وتصفح عمن شتمك } . ورواه البزار عن عبادة بن الصامت مرفوعا بلفظ { ألا أدلكم على ما يرفع به الدرجات ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال تحلم على من جهل عليك ، وتعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك } . ورواه الطبراني أيضا بلفظ { ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان ويرفع به الدرجات } فذكره ، إلى غير ذلك من الأخبار النبوية .

فإن علمتها وعملت بموجبها ( توفر ) بالبناء للمفعول أي يوفرك الله تعالى . والتوفير بالفاء التكثير . قال في القاموس : وفره توفيرا أكثره كوفر له وفرا ووفره توفيرا أكمله وجعله وافرا والوفر الغني ومن المال والمتاع الكثير الواسع والعام من كل شيء .

ولذا قال ( في عمر ) يعني يبسط لك في عمرك وينسأ لك في أجلك ( ورزق ) وهو اسم لما يسوقه الله تعالى للحيوان فيأكله من حلال وحرام خلافا للمعتزلة في زعمهم أن الحرام ليس برزق ، ويلزمهم أن من أكل الحرام طول عمره لم يكن الله رازقه ، مع أنه لا رازق إلا الله تعالى وحده ، ولكن العبد يستحق الذم والعقاب على أكل الحرام لسوء مباشرة أسبابه باختياره ( وتسعد ) مجزوم في جواب الأمر ، يقال سعد كعلم فهو سعيد ، وأسعده الله فهو مسعود ، ولا يقال مسعد ، وأسعده أعانه ، ولبيك وسعديك أي إسعادا بعد إسعاد كما في القاموس .

وقال الحجاوي في لغة إقناعه : سعد فلان في دين أو دنيا يسعد سعدا من باب تعب ، والفاعل سعيد والجمع سعداء [ ص: 351 ] والسعادة اسم منه . انتهى .

والسعادة من الكلمات الجامعة للخيرات ، المشعرة في الدنيا بالسعة وفي الآخرة بعلو الدرجات .

وإنما وصف الناظم واصل الرحم بهذه الأوصاف ، وخصه بهذه المزايا ، لعدة أخبار نبوية صحت عن خير البرايا .

فأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره ، فليصل رحمه } .

قوله { ينسأ } بضم الياء المثناة تحت وتشديد السين المهملة مهموزا أي يؤخر له في أجله .

والبخاري عن أبي هريرة مرفوعا { من سره أن يبسط له في رزقه ، أو ينسأ له في أثره ، فليصل رحمه } . ورواه الترمذي بلفظ { تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ، فإن صلة الرحم محبة في الأهل ، مثراة في المال ، منسأة في الأثر } ومعنى منسأة في الأثر يعني به الزيادة في العمر . ومعنى مثراة في المال يعني به الزيادة في المال .

وأخرج عبد الله بن الإمام أحمد في زوائده والبزار بإسناد جيد والحاكم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من سره أن يمد له في عمره ، ويوسع له في رزقه ، ويدفع عنه ميتة السوء ، فليتق الله ، وليصل رحمه } .

وأخرج البزار بإسناد لا بأس به والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { مكتوب في التوراة من أحب أن يزاد في عمره ويزاد في رزقه فليصل رحمه } .

وأخرج الطبراني بإسناد حسن والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله ليعمر بالقوم الديار ، ويثمر لهم الأموال وما نظر إليهم منذ خلقهم بغضا لهم . قيل وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال بصلتهم أرحامهم } .

وأخرج ابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد عن ثوبان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الرجل [ ص: 352 ] ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ، ولا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر } .

وروى الإمام أحمد عن عائشة مرفوعا { صلة الرحم ، وحسن الجوار ، وحسن الخلق ، يعمران الديار ، ويزيدان في الأعمار } .

وأخرج الطبراني وابن حبان في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال { أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير ، أوصاني أن لا أنظر إلى من هو فوقي ، وأن أنظر إلى من هو دوني ، وأوصاني بحب المساكين والدنو منهم ، وأوصاني أن أصل رحمي ، وإن أدبرت ، وأوصاني أن لا أخاف في الله لومة لائم . وأوصاني أن أقول الحق وإن كان مرا . وأوصاني أن أكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة } .

وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها } إلى غير ذلك من الآثار والأخبار ، الواردة عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم ما كر الليل والنهار .

التالي السابق


الخدمات العلمية